على رصيف المدينة جلس صادق ممسكاً في يدهِ كرت لشبكة الأنترنت الذي أشتراه كعادته ليجول في مواقع الأخبار ويتقمص دور المدافع عن قضايا السياسيين وآرائهم ، ويصّور في حديثهِ واقعاً جميلاً أثمر على أيديهم، حتى استوقفت أنامله طفلة الخامسة من عمر الزهور وهي تومئ له .. ياعم..ساعدني! كان بطبيعته ينهر من يقطع حبل أفكاره ، وهو في خضم انشغاله ، إلا أمام تلك الطفلة .. وقف صامتا ! وكأن خلف ملامحها مايستحق أن يطرق لها مسمعه ، دقق في عينيها لبرهة وذكر تعليقه المنتظر في ذلك المقال فحاول صرفها كي لا يتأخر وتضيع منه الفكرة ! "الله كريم" ! هذه الكلمة التي دوماً ما تمتلئ بها جيوبنا لكل من يمد لنا يد العَوز ،بقدر جمالها إلا أنها تترك في أنفسهم شعور الاستياء وخيبة الأمل ، لا سيما من أولئك الذين يبعثون بها دون أن يلوحوا حتى بابتسامة اعتذار أو لفتة تقدير من وجوههم ، هو الكريم الذي لا يشوب عطاؤه منّا على خلقه ، بينما نحن نبخل حتى في تقديم هذه الكلمة لطارقي أبوابنا بطريقة تحفظ لهم كرامتهم ، غادرت تلك الطفلة برأسها المنحني لتدلف إلى صيدلية تقع على مقربة من الشخص المذكور ،ولم تكن سوى ثوان معدودة حتى نهرها البائع أن تخرج كي لا يتسخ صرحه المعّقم من ثيابها المتسخة..!
لاحظ صادق ذلك البائع وتقطّع وجههُ غضبا على تصرفه الوقح، الذي لم تكن فيه رحمة لبراءة الطفولة، وهو يسمع كلماته التي تفوح بالنتانة في حقها ، وفي تلك اللحظة أطبق هاتفه ، ومد بشق يده للطفلة كي يحادثها بعد أن حرك الموقف في ذاته شعور الشفقة ، يا ابنتي ما الذي يجبرك على هذا العمل ؟ لا تزالين صغيرة على حمل المسؤولية ومن حقك أن تعيشي طفولتك أو فلتظلي برفقة أمك إذا فرضت عليك هذا العمل.. ، لا تبرحيها وإن أصرّت على ذلك طمعاً منها في أكبر دخلٍ ممكن!
أغلقت تلك الطفلة عينيها كمن يفتش عن إجابة ضائعة في حلقات الذاكرة المكتظة برزم المآسي والأوجاع ، وردت له بنبرة مهترئة: لقد قتلت أمي وخالتي في هذا الشارع ياعم بعد مطاردة قبل أشهر كانتا وحديهما ضحية الرصاص الغادر ! ولدي أخت معوقة تقبع في،المنزل ، وأخي برفقتها يكبرني سناً ، جلس هناك ليحوطها ويقوم على رعايتها وهذا الغذاء الذي تراه أذهب به يوما ، ويوما لا أجد في متناول يدي ما يسد جوعهم .. ووالدي .. نعم والدي ..! هو هنا لو أردت ؛ سأحملك أليه.. إنه في فرزه قريبة من المكان يعمل إسكافيا للأحذيه!
من قتلهما .. لماذا ...كيف ؟! كل تلك التساؤلات لثم بها مسمع الطفلة التي لم يكن لها ردٌّ سوى .. لست أعلم لست أعلم !
انصرفت في لحظة ذهوله لتترك مكانها شاغرا بكومة من الخيبات، وبعد أن استرد ذهنه، رجع لتلك الصفحة المتتابعة بالأحداث .. كانت آخر كلمه اكتتبها في تمجيد أحد أوجه الدولة والمناط بهم مسؤولية هذه الأرض ، مسحها من شاشة هاتفه ، ورجع ليحذف موقفا سابقا وضعه في تعليق آخر، ومكان آخر مشبوه..! وكتب بدمعةٍ تطاير بعضها على بلاطة الرصيف : " رحم الله الوطن يا أصدقاء "