توطئة : ليس المقصود في هذا المقام تعميد لفظة " الأزمة " المثيرة لحساسية ثوار " الصف الأول " في اليمن , تلك الكلمة التي سرّبتها المبادرات الخليجية الواحدة تلو الأخرى تقليلاً من شأن الثورة الشبابية .. أما و أنّ الحساسية التي تسبّبت بها قد خدّرت موضعها الآن تعقيدات باتت أهم من منطق انتقائية الألفاظ , سيكون من المريح لي أن اختارها كالصفة الأكثر مقاربة لمجموعة الإشكالات التي انبرجت عنها ثورة اليمن ؛ دون أن يتهمني أحد بالمزايدة , كما آمل ..
عندما ظهر علي عبدالله صالح الرئيس اليمني في أعقاب اندلاع الثورة المصرية -على شاشة التلفاز يتندر اليمنيين من عواقب ثورة علم أنها ستطال حكمه في مستقبل تراءى له قريباً , لم يعط أحد لتكهناته / تهديداته/ سخريته أيّ بال , لنقل لم يكن أحدٌ في الواقع متفرغاً في ذلك الوقت لشيء سوى لتوليد الثورة من رحم المجتمع اليمني المنقبض بشراسة , وعليه لم يفكر اليمنيون آنذاك في تطعيم أو تحصين المولودة الجديدة ضد أمراض الأزمات التي تنمر بها الجد صالح و لم يعتقدوا لوهلة أنهم أنفسهم سيكونون مصدر هذه العدوى .
وهب صالح نفسه منذ الأيام الأولى للثورة لهذه السياسة الصبورة , سياسة " تقليم الأظافر " إن صح لي تسميتها , دأب في كل جمعة على صب قطرات من زيته فوق نار الحماس الثوري المرتبك , ليتلذذ بعدها بمراقبة حرائق هائلة مصدرها مبالغات الإعلام المعارض و الناطق باسم الثورة و انفعالات بعض كياناتها و شخوصها .. فبدلاً من أن ينكفئ هؤلاء على التركيز على أساسيات العمل الهيكلي لكيانات الثورة و تلحيم فروعها بعضها ببعض و تفعيل مسيرتها التغييرية , انجروفوا نحو مزالق غائرة من الردح الإعلامي و السياسي المتبادل , الذي ذهب كل مذهب بعيداً جداً من مصلحة الثورة و قريبا للغاية من حقيقة تشظيتها .
بين التفاني في تفنيد فتوى الاختلاط التي صدح بها الرئيس و الرد عليها .. و الاستماتة في كشف ألاعيب فوتوشوب قناة اليمن في تضخيم حشود السبعين .. و جنون تبادل التهم حول مَن قطع لسان الشاعر أو مَن ضرب العجوز في الساحة .. و الانشغال المفرط بمن بايع الثورة و من كفر بالرئيس ..بين كل هذا الكم من الإعياء لدى التغييريين الذي تسببه أصداء خطب صالح في السبعين و تصريحات الجندي على الجزيرة ؛ و بين شجب محاولة اغتيال اليدومي , و دراسة تخريصات الزنداني.. أصبح كل شيء مهماً فجأة .. إلاّ الثورة !
لا أعرف لماذا تذكرني هذه الحالة بذلك الطالب الذي نكون عليه عندما لا نستعد للامتحان بالشكل الجيد , نتفرغ ليلة الامتحان لعمل كل شيء إلاّ مواجهة مسئولياتنا تجاه الكتب ؛ التنظيف يأخذ أهميته القصوى , النوم يصبح السلطان الأقوى , التلفاز يغدو ألذ ما يكون , حديث الأصدقاء , الفيس بوك كل شي جميلٌ و مهم إلاّ المذاكرة .. قياساً ؛ بعد كل هذه الأشهر من فقدان التركيز و عدم الجهوزية ؛ و بعد أن أهدى القدر لثوار اليمن خروجاً طالما تمنوه لصالح من دائرة المشهد السياسي اليمني رحنا نستهلك ورود العالم قطفاً طوال الشهر و النصف على نحو : سيعود , لن يعود .. مات , لم يمت , أصيب , لم يُصب .. هذا قبل أن تنبثق مبادرة المجلس الانتقالي المفرغة تماما ًمن التوضيحات و المنهجية والتي يتم التباكي عليها الآن دون أن يلتفت أحد لطبيعتها الهشة التي أتاحت كل المجال لأن يتم وأدها , كالعادة مع أي مشروع يبشّر بأي انفراج شبابي الصنع .
الهوس بصالح " الشخص " قريباُ و بعيداً , قادراً و عاجزاً , لم يفعل لليمنيين شيئاً سوى أنه أضاف أزمة جديدة إلى كومة الأزمات التي تشظّت عنها الثورة و أضاف فضاءً واسعاً لتطبيق " نظرية المؤامرة " , و أرضاً خصبة للتدخل السافر للأطراف الخارجية في شئون البلد .
نظرية المؤامرة وجدت لها كامل الحفاوة في ظل ظروف كالتي تعيشها اليمن اليوم , فالكل متهم بالتآمر هنا ؛ المشترك متآمرون , الشباب متآمرون , المتحزبون متآمرون , الإسلاميون متآمرون , الليبراليون متآمرون , في طابور العيش نحن متأمرون و في محطات البنزين متأمرون و في شركات الكهرباء متآمرون السعودية متآمرة , أميركا متآمرة حتى المؤامرة متآمرة .
من حق السعودية و هي تشاهد الطاولة فارغة أمامها أن تبدأ بتحريك قطع الشطرنج على الجانبين , من حق السعودية أو غيرها أن تفكر أو تتعامل مع اليمن كيفما تقتضي مصلحتها فهي لا تكترث كثيراً بالشخوص طلما و أن الأبعاد الاستراتيجية التي ضمنها لها نظام صالح ستظل هي نفسها إذا رحل , خاصة و أنّ الطرفين يرتبطان مع امراء آل سعود بعلاقات وشيجة تصل للمصاهرة بينهم , لكن يبدو أن السعودية و في يدها التفويض الأمريكي تلوّح الآن بورقة سحب المساعدات المالية عن الجار الفقير و بالتالي عن جيوب فردتي البنطال السياسي اليمني إذا لم تسر الامور على هواها , ,الهوى الذي ينص على : أن يظل هذا الجار العكاز الذي تستند عليه دون أن تتعثر هي بمطبات الربيع العربي و دون أن ينكسر هو .
لكن تبقى إمكانية السماح لها من عدمه في أيدي اليمنيين وحدهم , أحزاباَ و أفراداَ و مؤسساتٍ .. تبقى في أيديهم وحدهم امكانية إيقاف هذا العبث الممارس ضد انسانيتهم من قبل عصابة " النظام " على شعبٍ هو الأعرق في شبة جزيرة العرب .. تبقى في أيديهم وحدهم إعادة الكهرباء و الماء و البنزين إلى حضائرهم .. تبقى في أيديهم وحدهم إسالة الدماء في عروق ثورتهم .. تبقى في أيديهم وحدهم إفاقة الحالمين بالسلطة على حساب آمالهم .. تبقى في أيديهم وحدهم إمكانية اسقاط النظام و بناء الدولة المدنية التي طال انتظارها ..
حدثني مارتن لوثر كنج ذات يوم و كان متكئاً , فقال : " لا يستطيع أحد امتطاء ظهرك ؛ إلاّ إذا كنت منحنياً " , أردف و قد اعتدل في جلسته و بانت عليه علامات الوجوم " لا يستطيع عجوز مريض أن يكسر 25 مليون إرادة شابة ؛ إلاّ إذا كانت مرتبكة " .. انتهى "بعض" قوله ..عليه بركات الرب ..