كتب :مازن رفعت نزلت الملكة بموكبها إلى أرض البركان التي استعمرتها قواتها ، لمحت نوراً يشع من خلال كومة من الصخور البركانية ، استفسرت عنه ، لم يملكوا لها إجابة ، أمرت رجالها بالحفر ، حفروا كومة الصخور البركانية ، ليجدوا طفلة رضيعة ، يشع النور من ضحكتها الساحرة ، آٌسروا بجمالها الأسمر الأخاذ ، أمرت الملكة بإحضارها ، حملتها بين ذراعيها ، تأملتها بانبهار ، وقالت : لم أتصور أن في البراكين ملائكة !
انفجرت عيناً في البقعة التي وُجِدت بها الطفلة ، فما كان من الملكة إلا أن تقول: هذه الطفلة مباركة ! منذ اليوم سيكون اسمها عيون ، وستكون طفلتي التي لم ألدها! باتت عيون الطفلة المدللة للملكة ، التي فُتِنت بها ، أحبها كل من في القصر، لأنها ببساطة بهجة القصر ، وكان في القصر صبي بنفس عمر عيون ، اسمه عامر ، من سكان أرض البركان ، أحب عيون ، وعيون أحبته ، أحبت رفقته ، محادثته ، اللعب معه ، بالرغم من أن والدتها الملكة تنهرها دائماً من اللعب مع عامر بحجة أنه خادم وليس من مقامها ، وليدحض عامر حجة أنه خادم ، درس ، واجتهد ، أدخر من مصروفه ليكمل دراسته بنجاح ، ويصبح من المتفوقين ، بذكائه وإخلاصه كسب ثقة الملكة واحترامها ، وبالفعل رقته الملكة إلى منصب مدير شؤون القصر ، بل أن الملكة كانت تستشيره في كثير من الأمور المالية . شبّت عيون ، صارت آية من الجمال ، نظرة واحدة إليها ضمان لنوم هانئ خالي من الكوابيس ، تنقشع غيوم الهم عن سماء القلب بإشراقة ثغرها ، وعلى أوتار الروح تتردد صدى ضحكاتها .
ردت عيون كل من تقرب إليها ، لأنها اختارت مصيرها ، ابن تربتها عامر . رفضت الملكة هذه العلاقة ، واعتبرتها محرمة ، وألزمت عيون بمصير غير الذي اختارته ، لكن عيون وُلدت حرة أبية ، لم تخضع لأوامر والدتها الملكة ونواهيها ، تخلت عن كل البذخ والرفاهية الذي عاشته ، وهربت برفقة عامر ، نحو سعادتهما ، ومصيرهما الذي اختاراه معاً .
الحب عندما يكبر ويقوى ، يصبح كشجرة عالية تنتج ثمراً حلو المذاق ، جذورها تتشبث بشرايين الأرض لتبقى حية ، لكن الكره يرخي هذه الجذور ، ويجعل سقوط الشجرة مدوياً ، هذا ما حصل تماماً مع الملكة ، سقط كل ذلك الحب الذي كانت تكنه لعيون في قلبها ليدوي كرهاً وحقداً هزّا كيانها ، عندما علمت بهروب عيون مع عامر ، بعد كل تلك السنين من الحب والرعاية والدلال والبذخ ، فضلت عليها ذلك الخادم ، أرسلت وراءهما ، ليصبحا بعد عدة أيام بين قدميها ، وبلهجة ممزوجة بالألم والحقد ، قالت الملكة : _أنتِ يا عيون ؟! جلبتكِ من العراء .. ألبستكِ ! .. أطعمتكِ ! ..أحببتكِ ! أتخذتك ابنة لي ! .. بعد كل ذلك تبيعينني من أجل هذا الخادم ؟! _ أنا أحبه ! _ هو ليس من مقامك !! _ هو ابن تربتي !! _ يبدو أنه مهما فعلت فلن يغير هذا شيئاً من أصلك الوضيع البركاني ! حسناً ! سأعيدك من حيث ما جئتِ!! أمرت بإعدام عامر ، ورمت بعيون في وادي بركاني ، تسكنه قبائل همجية ، لا يكادون يفقهون قولا ، وكأن قطعة لحمٍ سقطت وسط جمعٍ من الكلاب المسعورة ، أنقضوا على عيون يغتصبونها بوحشية ، دفعةً واحدة ، غير عابئين بصرخاتها التي تصهر القلوب ، لأن لا قلوب لهم ، غير عابئين بتوسلاتها ، لأنهم لا يفقهون قولا . أسيرة ! هذا ما صارت إليه عيون ، سبيل لمن أراد الرذيلة ، هم انتهكوا جسدها، لكنهم لم ينالوا من روحها الحية .
أتاها المنقذ من الشمال ، خلصها من الهمجيين ، جعلهم عبيداً له ، انتشلها من بؤسها ، تزوجها ، ظنت أن أيامها المشرقة ستكون معه ، لتفاجأ بأن منقذها أكثر وحشية من الهمجيين ، وأكثر (خبثاً ) لأنه تزوجها بعقدٍ مزور ، أتخذها جارية لديه ، يغتصبها بعنف كلما دعته شهوته ، والأمرّ أنه جعلها مطية لكل أفراد حاشيته الحمراء متى شاءوا ، لكنه لم يبعها لهم ، رغم العروض الخيالية التي قُدِمت إليه ، لأنه أرادها ملكه وحده ، صحيح أنه أجّرها لكل حاشيته كي يأمن غدرهم ، لكنه لم يتخلى عنها ، احتفظ بها في أسوأ بقعة في القصر ، قبو تحت الأرض ، مقيدة بحبال متينة ، يطعمها ما لا يسمن ولا يغني من جوع ، يطلبها فقط ليأخذ وطره منها ، ثم يعيدها للقبو ، وعندما تزايدت الضغوطات عليه من قِبل حاشيته الحمراء لشراء عيون ، قام بتشويه وجهها الجميل بماء النار ليسكت الألسن . مُحيت ملامح عيون ، عدا ثغرها الباسم المفعم بالأمل ، لم تستسلم للبؤس ، هكذا هي عيون . ثورة ! .. ثورة ! .. ثورة ! أتقدت حواسها لدى سماعها هذا الاسم الذي لم تسمع به من قبل ، لكنها أحست بأنها تعرف هذا الاسم ، حروفه تعزف على أوتار القلب لحن الأمل ، لحظات وأقبلت ثورة عليها ، شابة ، فتية ، متقدة ، جريئة ، مقدامة ، فكت أسرها وقالت لها : هيا بنا ! هتفت عيون متسائلة : ولكن كيف ؟ القصر مليء بالحرس !! _ لا تخافي بعد اليوم ! لأن الطاغية سقط ! قالتها وهي تجر معصم عيون وتركض بها إلى خارج القصر ، تحرر العبيد الهمجيون ، وتحركوا يسعون خلف عيون ، وفي الجهة المقابلة هرولت الحاشية الحمراء تسعى خلف عيون هي الأخرى ، قادت ثورة عيون نحو الحرية ، متجاوزين في طريقهما الجبال ، والصخور ، إلى أن وصل بهم الطريق إلى حافة هاوية سحيقة ، توقفا ، حاولا التراجع ، لكن دون جدوى ، فقد وصل إليهما كلاً من الهمجيين ، والحاشية الحمراء ، سادين كل المنافذ عنهما ، همت عيون بالقفز ، منعتها ثورة ، هتفت عيون : دعيني ! الموت عندي أهون من العودة إليهم ! قالت لها ثورة بثقة : أنا معك لن أدعهم ينالونك بسوء ! نادت الحاشية الحمراء : لا ترمي بنفسك يا عيون ! عودي إلينا ونعدك بأن نعيد لك جمالك وألقك ، ونجعلك أميرة تتربع على عرشٍ من ذهب ! هتف الهمجيون معترضين : لا تصدقيهم يا عيون ! نحن من نفس التربة ، وذقنا معاً الويل منهم ! تعالي معنا نحن أهلك ! أحتجت الحاشية الحمراء : أنتم منافقون ! تدعون بأنكم أهلها ، وكانت بينكم عاهرة ! _ أصمتوا يا طغاة ! أنتم من جعلتموها عاهرة ، وشوهتم جمالها ! سدت عيون أذنيها بكفيها ، أغمضت عينيها ، صرخت بألم وقهر : _ إرحلوا !!