عبدالحسين شعبان كان إعلان الوحدة اليمنية في العام 1990 حدثاً مهماً وبارزاً في تاريخ اليمن المعاصر، لاسيما وقد شهدت اليمن منذ استقلال الجنوب وتحرره من الاستعمار البريطاني بنجاح ثورة ردفان العام 1967 نزاعات واحترابات ومؤامرات بين شطريها الشمالي والجنوبي، لكن حلم الوحدة ظل يداعب اليمنيين في الشطرين، على الرغم من اختلاف النظامين الاجتماعيين حتى تحقق لهم ما أرادوا في العام 1994 إلاّ أن تحقق الوحدة لم يكن إنهاءً للاحتراب المعلن والمستتر والتشطير والإنقسام، خصوصاً بين مرجعيتين، فبعد الاقتتال الداخلي العام 1994، عانت اليمن من مشاكل داخلية حادة بعضها اتّخذ طابعاً مسلحاً، لاسيما في صعدة، وهي عبارة عن حرب تخمد قليلاً حتى تنفجر. وكانت آخر الحروب السّت ضد صعدة قد اتسمت بالتداخل الخارجي بعد أن اتّسعت رقعة النزاع إقليمياً وامتدّت الى حدود المملكة العربية السعودية، ناهيكم عن اتهامات وردت ضد إيران في محاولتها دعم الحوثيين، وهم زيديون يمثّلون فرقة أقرب الى الشيعة الإثني عشرية، وأضحت قضية الحوثيين مشكلة إقليمية، بحكم التواصل والتفاعل مع الخارج، ثم اندلعت مسألة الحراك الجنوبي، الذي اتخذ بُعداً شعبياً عشية انتفاضتي تونس ومصر، الأمر الذي حفّز الشارع اليمني على الانتفاضة. وقد قابلت السلطات الحاكمة الاحتجاجات الطلابية المطلبية بالقمع، الأمر الذي اتّسع تأثيرها بانضمام فئات أخرى إليها منذ شهر كانون الثاني (يناير) العام 2011. لعل أهم أسباب الحراك الشعبي تعود الى وصول مسألة المشاركة الى طريق مسدود ولم تنفع معه جميع المحاولات التي بذلتها أطراف عقلانية في المعارضة والسلطة على حلّ هذه الاشكالية، لكنها لم تنجح في تحقيق أي تقدم يخفف من ثقل المشكلة، فضلاً عن تدنّي المستوى المعيشي وارتفاع نسبة البطالة وزيادة حجم الفساد، لاسيما في المفاصل التي تحيط بالرئيس وعائلته. وقد كان لانكسار حاجز الخوف وراء نزول مئات الآلاف من الناس طيلة أشهر أسبوعياً وأحياناً يومياً، الى الشوارع والساحات. وتطوّرت الشعارات المطلبية الى شعارات سياسية راديكالية تطالب بإسقاط النظام، وهو الشعار الأبرز الذي ارتفع في ساحات التغيير، وسرى مثل النار في الهشيم من صنعاء مروراً بتعز وصولاً الى عدن وبقية المحافظات، ولعل هذا ما جعل أحزاب اللقاء المشترك، وهي تمثل قوى سياسية إسلامية وناصرية وماركسية وتقليدية كانت قريبة من مؤسسة النظام، التجاوب معه، على الرغم من أنه لم يكن في برامجها شعار الإطاحة بالنظام، بقدر إجراء إصلاحات سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية طويلة الأمد تفضي الى تغيير طبيعة النظام، بالانتقال تدريجياً من نظام استبدادي الى مرحلة التحوّل الديموقراطي، لاسيما عبر التراكم والتغيير المستمر. وإذا كان خيار الوحدة أساسياً لدى عدن بقدر رومانسيته وصميميته، فقد كان لدى صنعاء واقعياً. عدن ضحّت بتوجهها الاشتراكي ووأدت أول تجربة ماركسية عربية عن طيب خاطر، وعلى الرغم من الكثير من الأخطاء والعيوب التي صاحبتها، وخصوصاً مرض الطفولة اليساري الذي عانت منه وشحّ الحريات وفرض الرأي الواحد، الاّ أنها حققت بعض المنجزات الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصاً في مجال حقوق المرأة، حيث يعتبر قانون الأحوال الشخصية متقدماً على دول المنطقة، فضلاً عن حقوق الشغيلة وإعلاء شأن الثقافة، الاّ أن العواصف السياسية كانت تجتاحها بين حين وآخر وتقضي على النخب السياسية والفكرية، لاسيما الحاكمة وتفتح حمام الدم، الأمر الذي غدا فيه خيار الوحدة هروباً الى الأمام، في ظل مشاكل عصفت بالنظام الاشتراكي العالمي من جهة، وانقطاع دعمه ومساعداته لليمن من جهة أخرى، مما حملها على الاسراع بطلب الوحدة، وبالأخص بعد إعلان عزم ألمانيا على توحيد شطريها، لاسيما بانهيار جدار برلين في العام 1989، وهكذا تصورت عدن أن خيارها سيؤمن خلاصاً للأزمة المستفحلة من جهة ثالثة. وفي حين كان الحراك الشعبي يتعاظم كان نظام الحكم يراهن على مؤسسة الجيش، لا سيما الحرس الخاص الذي كان ملتفّاً حول الرئيس، إضافة الى قوات عسكرية أخرى، هي عبارة عن تشكيلات لقوات نظامية تابعة مباشرة الى مؤسسة الرئاسة، ويتم انتقاء عناصرها من الموالين، خصوصاً من العائلة والأقرباء والبلدات التي ينتمي اليها قادة الحكم، وهي سمة لم تقتصر على اليمن، بل كان العراق في العهد السابق، وكذلك سوريا وليبيا، تمتلك تشكيلات مماثلة، وقيل إن الحرس الجمهوري اليمني كان من تدريبات الحرس الجمهوري العراقي، ولعل هذه التشكيلات ليست بعيدة عن تلك التي تندغم فيها العائلة والعشيرة والقرية أو المدينة والطائفة أحياناً وغيرها، بجهاز الحكم، وخصوصاً القوات الأمنية والاستخبارية والعسكرية الضاربة مثلما تتماهى السلطة مع المال والاعلام والاستيراد والتصدير والثقافة والرياضة والسياحة، بحيث تهيمن على كل شيء في شكل من أشكال الدولة الغنائمية التي تستحوذ على المجتمع. ازدادت المشكلة اليمنية احتقانا بعد الأخذ والرد بشأن المبادرة الخليجية في 18 نيسان (ابريل) 2011 التي أعلنت الحكومة الموافقة عليها في 22 نيسان (ابريل) بهدف تأمين عملية انتقال سلس للسلطة، خصوصاً بعد تأييد قوى اللقاء المشترك، وكذلك الفاعليات الشعبية للحراك المجتمعي.وكانت المبادرة الخليجية قد تضمّنت بضع قواعد تؤمن الانتقال السلس، لكن تلك المبادرة كانت تنام وتستيقظ في إطار مناورات ومساومات، تارة لكسب الوقت وأخرى للتسويف وثالثة للانتظار، ولا تزال، ولعلها على نحو أكثر إلحاحاً بعد عودة الرئيس إلى صنعاء، خصوصاً وقد ترافقت عودته مع نبرة أميركية تطالبه بنقل سلس للسلطة، في حين أن الدعوة الى ضبط النفس والتوصل الى حل سلمي هي اللغة السائدة في الخطاب الأميركي طيلة الفترة الماضية. لقد شهدت اليمن عشية عودة الرئيس وخلال الأيام 19-20 أيلول/ سبتمبر2011 وبُعيد عودته مباشرة يوم 23/9 مجزرة حقيقية راح ضحيتها مئات وعشرات المواطنين في مواجهة بين متظاهرين سلميين وقوى شبحية، ينفي النظام أي ارتباط له بها، وتؤكد المعارضة وقوى الحراك الشعبي أنها قوى نظامية أو شبه نظامية بملابس مدنية، وهي مكلّفة من النظام وبإشرافه لقمع المتظاهرين وإرهابهم، الأمر الذي ينذر بتصاعد موجة العنف بعد أن وصلت الأمور الى طريق مسدود. لا يمكن النظر الى قضية التغيير الديموقراطي في اليمن مثل غيره من البلدان، ولا يمكن استنساخ حلول جاهزة له، فله خصوصيته وتعقيدات وضعه السياسي والقبلي والمذهبي والمناطقي والإقليمي إضافة الى حساسياته السياسية؛ فالمشكلة القبلية، لاسيما "قبيلة حاشد" التي لها دور كبير وتحديداً عائلة الأحمر التي ينتمي اليها اللواء علي حسن، الذي كان من أشد المتصدّين للحوثيين في حروب صعدة، انفجرت مثل بركان. أما مشكلة الحوثيين فهي مشكلة مذهبية بحكم دور الجماعة الحوثية الزيدية الأصول، فقد شنت عليها الحكومة ست حروب دون أن تتمكن من القضاء عليها، على الرغم من هدنات واتفاقيات ووساطات قطرية وغيرها. وهناك مشكلة مناطقية أيضاً بحكم تعبيرات مناطق الجنوب والشعور بالتمييز والتي تستبطن احتقانات تعود الى سنوات طويلة، لاسيما ما حصل في العام 1994، خصوصاً وهناك من يسعى لإعادة القديم الى قدمه والمطالبة بانفصال الجنوب مثلما يدعو الى ذلك الرئيس السابق علي سالم البيض؛ أما المشكلة العسكرية فهي قائمة أيضاً، حتى وإنْ ظل الجيش، الى جانب الرئيس خصوصاً التشكيلات الخاصة، لكن انشقاق اللواء علي محسن وانضمامه الى الحراك الشعبي مع قواته، قد يدفع باتجاه الاقتتال الذي لو تطور - ولاسيما بوجود نحو 68 مليون قطعة سلاح - فقد يدفع بعض الأطراف الدولية للتدخل طلباً لتأمين حماية للسكان المدنيين، سواءً بمنع الطيران الرسمي من التحليق No Fly Zone أو بفرض حصار قد يؤدي الى شلّ يد الحكومة وإضعاف قدرتها تدريجياً. وإذا العامل الدولي لم يقرر إتجاهه بعد، فإن تدهور الوضع الأمني وارتفاع عدد الضحايا، سيضطرّه الى اتخاذ موقف، لاعتبارات أخلاقية بحكم وزن الرأي العام ودوره من جهة، ومسؤوليات قانونية وسياسية من جهة ثانية. المشكلة اليمنية هي مشكلة سياسية بامتياز إذْ أن الحركة السياسية القوية نسبياً بما فيها الحزب الحاكم تتصارع منذ عقدين من الزمان، علماً بأن المعارضة بجميع تياراتها عنصر فاعل على مستوى الشارع السياسي أيضاً، بما فيها حزب التجمع اليمني للاصلاح الذي يضم تحالفاً وامتداداً لجماعة الأخوان المسلمين وبعض رؤساء القبائل والعسكريين، إضافة الى معارضة الحزب الاشتراكي اليمني، والناصريين، ومؤسسات المجتمع المدني وشخصيات مستقلة. ولا يخفى وجود مشكلة كبرى في اليمن اسمها الإرهاب والتطرّف والتعصب، حيث يستغل تنظيم القاعدة وجماعات سلفية وتكفيرية هذه الأجواء للزحف على هذه المدينة أو تلك، التي تعلن عصياناً هنا وتمرّداً هناك، تقتل وتذبح على الطريقة "الاسلامية" أو دونها، فتربك الوضع وتخلط الأوراق، علماً بأنه لا جامع يجمع هذه المجموعات بالاسلام وقيمه السمحاء. وقد حاول نظام الحكم في اليمن وفي أكثر من مناسبة تأكيد شراكته والتزامه للتعاطي مع المتطلبات الدولية في ما يسمى محاربة الإرهاب الدولي، ولعله اليوم أكثر استعداداً لقبول أية صيغة تؤمن له البقاء والاستمرار، خصوصاً وقد ظل خلال السنوات المنصرمة يوحي بأن غيابه سيعني ترك البلاد تقع تحت هيمنة تنظيمات القاعدة الارهابية. هكذا تبدو المشكلة اليمنية معقدة ومتشابكة، وبقدر محليتها، فهي مشكلة إقليمية أيضاً بحكم دور مجلس التعاون الخليجي، وقلقه ومخاوفه، لاسيما امتدادها وعناصرها الخارجية، بما فيها إيران، وهي مشكلة دولية في الوقت نفسه، سواء تطورها الداخلي أو نشاط تنظيم القاعدة والارهاب الدولي فيها ومسارها اللاحق، ولعل هذا ما عبّر عنه السفير البريطاني جوناثان ويلكس، في مقابلة له، حين قال" لدينا بعض القوات في المنطقة، ولها أهمية استراتيجية في الخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وهناك تنقّلات مستمرة عبر هذه المنطقة، ولهذا ستظل اليمن تتصدر جداول الأعمال الدولية". وأضاف سفير بريطانيا في صنعاء بخصوص توصيفه للمشكلة اليمنية بالقول إنها "ليست مجرد أزمة يمنية، إنها مشكلة ذات بعد دولي، وهذا واضح عند النقاش في مجلس الأمن، فإن روسيا والصين تشتركان في القلق الذي يساور بريطانيا وأميركا وفرنسا" . ولعل هذا التوصيف ينطبق على مواقف القوى الكبرى في مسألة ليبيا وسوريا أيضاً، وهي إشكالية لم تعد خافية على أحد بحكم تعارض أو اتفاق المصالح الدولية بما فيها القوى المتنفذة، وخصوصاً واشنطن ولندن وباريس أيضاً. ولعل سؤالاً محرجاً سيثار، لماذا لم يتخذ مجلس الأمن وجامعة الدول العربية قرارات مثلما اتخذت بحق ليبيا، وكيف تدخّل حلف الناتو بهذه السرعة، في حين لم يحرّك المجتمع الدولي ساكناً، باستثناءات محدودة بخصوص اليمن، على الرغم من شلال الدم والعنف المنفلت من عقاله منذ أشهر؟ أهو وجود النفط في ليبيا أم أن تدخلاً في اليمن سيكون له انعكاسات سلبية على دول الخليج؟ أم أن الوجهة العامة ليست كما يريدها الغرب وقواه المتنفذة؟. ومثل هذه الأسئلة مشروعة قانونياً وسياسياً، وبالطبع لا ينبغي تفسيرها وكأنها دعوة للتدخل الخارجي، لاسيما العسكري، وإنْ كان من واجب المجتمع الدولي حماية السكان المدنيين الذين يعانون أشدّ المعاناة، وهي حماية مفروضة بحكم مبادئ التدخل الانساني، وإن كان الغرب قد استخدمه في حالات أخرى، لأغراض سياسية ووظّفه بطريقة فيها انتقائية في المعايير وازدواجية في السياسات. باحث وحقوقي عراقي- المستقبل اللبنانية