في البداية أُحيي الروح الفياضة المستشعرة للخطر المحدق باليمن ، والتي دفعتكم لتجشم عناء السفر بما تخلله من متاعب على مختلف المستويات ، لا سيما الأمنية منها ، في ظل نظام فقد شرعيته ، ويحاولْ أن يتوكأ على الحديد والنار ، غير قادر على تَقَبلِ فكرة انقضاء أجله ، وأنه لا سلطة مدى الحياة ولا ديكتاتورية إلى مالا نهاية ، ولا فساد دائم ، فالثورة اندلعت في مثل هذه الأيام من العام الماضي وقبلها انطلق الحراك السلمي في الجنوب، ولم يعد من شيءٍ يُمْكنُهُ إيقاف عجلة التغيير .. المشاركات والمشاركون الأعزاء يأتي مؤتمركم هذا ، المنعْقد في محروسةِ مصر ، وأرضُ الكنانة تقترب من الذكرى الأولى لاندلاع ثورتها العظيمة في 25 يناير ، ولطالما كانت هذه الأرض الطيبة مصدر إلهام لنا في الوطن العربي وفي اليمن سواءاً في الشمال أم في الجنوب ، حيث سقطت قوافل الشهداء المصريين في ثورة 26 سبتمبر للدفاع عن الثورة في الشمال، وقدمت الدعم لثورة 14 أكتوبر في الجنوب حتى تحقق الاستقلال ورحل الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، ومازالت يدوي في آذاننا صوت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حين أعلن من مدينة تعز عام 1964م أن على الاستعمار البريطاني أن يحمل عصاه ويرحل عن عدن. وبسقوط النظام المصري في 11 فبراير من العام الماضي كان الإلهام ماثلاً ، فخرجت جماهير صنعاءوعدنوتعز ومحافظات اليمن الأخرى تحتفي بنصر أشقائها المصريين وتدشن الثورة الشبابية الشعبية اليمنية في نفس اليوم والتي لاتزال صامدة بعد أن سجلت ملاحم أسطورية خلال ما يقرب من عام كامل شهد لها القاصي والداني ، بل إنها وفق استطلاعات الرأي العالمية غيرت الصورة النمطية للشعب اليمني التي كرسها نظام صالح، حتى بات اليمني يفاخر بجنسيته أينما حل وظل ، ولقد كانت جائزة نوبل للسلام واحدة من عمليات الاعتراف بالملحمة الثورية السلمية حيث تمنح لأول مرة لامرأة عربية يمنية هي توكل كرمان، اعترافاً من العالم بثورة اليمن السلمية وبدور المرأة فيها، فأسلحة اليمنيين دخلت المنازل ولم تخرج، ونساؤهم خرجن إلى ساحات الحرية والكرامة ... والتحم المدني بالقبيلي بالعسكري باتجاه تحقيق كامل أهداف الثورة واستحقاقات التغيير المنشود الذي بات نتيجة حتمية رغم محاولات الالتفاف عليها ، وبمناسبة ذكر مسألة الالتفاف فإنني أود أن أحيي استشعاركم لما يحاك ضد الثورة في السر والعلن ، والتي تعتمل في اليمن وفي غير بلد من بلدان ما يسمى بالربيع العربي ، وهذا المؤتمر بعنوانه المهم يأتي في هذا الإطار ، ويضيف أيضاً نوعاً من التفهم لاستحقاقات أخرى قد لا يلتفت إليها الثوار عادة، وهذه الاستحقاقات تتمثل في وضع رؤية لمعالجة القضايا الكبيرة والمعقدة والمركبة التي تخص اليمن دون غيرها من بلدان الثورات العربية بما يُمكن الشباب وهم قادة اليمن الجديد من وضع خطاهم المباركة على عتبة المستقبل ، ومن أولى هذه المهام حل القضية الجنوبية العادلة بوصفها مدخلاً لحل كافة قضايا اليمن. المشاركات والمشاركون الأعزاء.. ينعقد مؤتمركم هذا في وقت عصيب ، ندرك فيه جميعاً ضرورة صمود ساحات التغيير والحرية وبقاء الاعتصامات كضامن لاستكمال تحقيق أهداف الثورة ، وينبغي أن نعي أن الشباب لايريدون نصف ثورة ، فقيمة أية ثورة ليس فقط إن تزيح رموز النظام السابق، بل هيكله ومؤسساته الفاسدة. أيها الحضور الكرام ... طالما أكدت على إن نظام صالح حوّل حلم الوحدة الجميل إلى كابوس مفزع ، وأشاع روح الفرقة والتشرذم حينما كرس أزمته الأخلاقية وطريقته في الحكم بالوصاية، والتفرد، والضيم، والضم، والإلحاق، وعقلية المحتل، ونفسية المتفيد وشعور المتكبر المتجبر ، وبهذا أساء للوحدة اليمنية وكان ذلك سبباً مباشراً لانطلاقة الحراك الجنوبي السلمي الشعبي دفاعاً عن الكيان والتاريخ والهوية والتراث والوجود والمستقبل، باعتبار أن القضية الجنوبية قضية عادلة وهي سياسية بامتياز وحقوقية في المقام التالي ، ولم يكن النظام ليعترف قط بهذه القضية على النحو الذي أشرت إليه، واليمنيون معنيون أن يناقشوا ويتوصلوا إلى أفضل الوسائل التي تبلور حلاً عادلاً ومنصفاً لهذه القضية ، ترضي الشعب في الجنوب ، وتلبي مطالبه العادلة. ولا ننسى أن من ضمن خصوصيات الحالة اليمنية تفتق الحركة الحوثية من بين الحديد والنار والقنابل الفوسفورية التي سقطت على أرض صعدة الأبية وماحولها ، وكان على الناس أن يدافعوا عن أنفسهم وأرضهم وتاريخهم وتراثهم ويصمدوا في وجه سلطة الحروب المتنقلة والعبثية فكانت ستة حروب شرسة وظالمة وإهدار لدم الأبرياء وتخريب للممتلكات واستنزاف للثروات وابتزاز للجيران وإقحامهم في حروب يفتعلها نظام صنعاء ويتاجر بها . لقد اثار اهتمامي في وثائق مؤتمركم الالتفات الواضح إلى المسألة الاقتصادية والنظر لمستقبل اليمن الجديد ، خاصة بعد أن عمد نظام صنعاء إلى ترك البلد منهار اقتصادياً من خلال أخطبوط الفساد الذي زرعه وكرسه كطريقة حياة عامة وخاصة بعد اندلاع شرارة الثورة وشعوره بنهايته المرتقبة وهو الذي طالما تعامل مع البنك المركزي على أنه خزينة خاصة للأسرة والحزب والعصابة. وآمل أن يخرج مؤتمركم بتوصيات هامة في هذا الجانب الذي يلامس حياة المواطنين الذين يعيش معظمهم في خط الفقر وتحته، ومن يطلع على النسب والإحصائيات يشعر بالذعر إزاء ما وصل إليه اليمن الغني بثرواته وموقعه الاستراتيجي الهام . إن قضية الإرهاب وزرع بؤر التطرف شمالا وجنوباً هي قضية أخرى كبيرة ومؤرقة ، وقد استخدمها النظام بعد أن افتعلها كذريعة لضرب الحراك الجنوبي وتصفية مختلف خصومه السياسيين، فكما فعل في أبين جنوباً هاهو يكرر العملية الخبيثة ذاتها في رداع شمالاً واحتلال مدرسة العامرية التاريخية وتحويل هذا الصرح المعماري المتميز الذي حصل على جائزة الاغاخان عام 2007م إلى قلعة عسكرية، مؤكداً على نهجه الهمجي حتى النهاية . مما لاشك فيه أننا بحاجة في اليمن ليس إلى مصالحة تنطلق بإرادة حقيقية فحسب ، بل إلى مصالحة تؤدي إلى المشاركة الفعلية في السلطة والثروة، وكان لنا في الجنوب تجربة واعية في هذا المضمار حينما نادينا بمبدأ التصالح والتسامح ، والذي يجب أن يعم كامل اليمن ، وهنا ينبغي أن تتوافر شروط مهمة لإنجاح أية مصالحة ، تبدأ بالاعتراف بالأخطاء رسمياً ، وترك أمر العفو لأصحابه. ويتعين أن يكون هناك رؤية خاصة بنا لمحددات العدالة الانتقالية وأن لا تفرض على الشعب بل يفرضها الشعب وهذا الأمر مما يضطلع به المفكرون والباحثون من أمثالكم .. في الختام ... أجدد التحية والتقدير لجمعكم الكريم... واخص بالذكر الأخ العزيز عز الدين الأصبحي وكافة من ساهم في تنظيم ودعم المؤتمر ... وأتمنى لكم التوفيق في كافة أعمالكم ... وبلوغ مقاصدكم النبيلة من أجل الشعب والوطن وخير الإنسان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
* كلمة الرئيس علي ناصر محمد التي القيت الاثنين 23 يناير 2012 في مؤتمر اليمن الى اين ؟ والمنعقد بالعاصمة المصرية القاهرة