انتفضت صنعاء وبقية المحافظات عن بكرة أبيها , وتوافدت الجموع من كل حدب وصوب للمشاركة في الانتخابات الرئاسية , وكل يدلو بدلوه رغم عدم توافر القناعات التامة والمطلقة لدى الأغلبية العظمى للمشاركة في الانتخابات والتصويت , ولكنها ذهبت ربما أملا في أن ينزاح ذلك الكابوس المرعب الذي جثم على صدور اليمنيين عقودا من الزمن , او ربما خلاصا من الأوضاع المأساوية الاقتصادية والمعيشية الكارثية التي وصلت إليها اليمن , في ظل وطأة سياسة العقاب الجماعي وتدهور الأوضاع , او ربما أملا في غد أفضل يحلم به المواطن بعد عام مرير من الصراع والاقتتال والتنافس والاختلاف بين أقطاب القوى السياسية والشعبية , ولم تحقق الثورة الشبابية أي شئ يذكر في هذا المضمار من النصر والمبالغة بالاحتفالات والتغطية الإعلامية المبالغ فيها , التي انحصرت فقط على محافظات بعينها مثل صنعاء وتعز والمناطق الأكثر أمنا متجاهلة الجنوب وعدن والمناطق الساخنة الملتهبة والرافضة للانتخابات كليا , وان كانت هناك تغطيات جزئية وبسيطة للمحافظات الجنوبية في ظل التوتر الأمني القائم والتواجد العسكري الكثيف والمسيطر على جميع مداخل وطرقات عواصم المحافظات والمديريات , يوحي بأن وراء الأمر ما وراءه مما يجري فعليا في المناطق الرافضة كليا للانتخابات كمحافظة صعدة شمالا والضالع وأبين جنوبا. وفي هذا اليوم تجاهل الإعلام الرسمي والحكومي والخاص ما يجري فعليا على ارض الواقع من تجاوزات وقتل وتخريب وأعمال فوضى وإجرام بحق المواطنين وصلت لرصد حالات قتل وجرحى في أكثر المحافظات الجنوبية , وتوترات أمنية في شمال الشمال صعدة ومأرب وهذا ما لم تسمعه في الأخبار ولم نشاهده إطلاقا , ربما إنها سياسية قوية ومتعمدة للتجاهل الإعلامي بسبق الإصرار لتمرير الانتخابات والرأي الشعبي وإيصال رسالة للعالم وللخارج مفادها إن الأمور مستقرة , وان سير العملية الانتخابية تسير على أتم وجه مطلوب , متجاهلة بصورة متعمدة أسر الشهداء التي اكتظت بهم المقابر لزيارة ذويهم وأقاربهم الشهداء , وقراءة الفاتحة على موتاهم والدعاء لهم , الذين ذهبت أرواحهم فداءا للوطن , والذين ضحوا بزهور شبابهم وحياتهم لينعم اليمن بغد أفضل , وقد تحقق مرادهم بإسقاط النظام كليا وتحقيق العدالة المنشودة والقصاص العادل ممن تسبب في قتلهم , وبينما كانت القنوات الإعلامية تحتفل بالأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية الغنائية والموسيقي الصاخبة والرقصات الشعبية كانت اسر الشهداء وذويهم يذرفون الدموع على ضحاياهم في المقابر ولا عزاء ولا بواكي لهم , صورة متناقضة ويوم غريب جدا في التأريخ اليمني المعاصر.
فمن ضحوا بأنفسهم إكراما لهذا الوطن يموتون ألف مره في مقابرهم وحسرتهم على الصفقات السياسية التآمرية , وما نتج عنها من إفرازات حيوية وتحولات في الحياة اليمنية أنجبت حكومات وأصناما جديدة وديكتاتوريات مستمرة منبثقة من النظام السابق , وما زاد الأمر تناقضا ذهاب الأغلبية للانتخابات مسيرة أو مخيرة , فالجنود والقادة التي تلطخت أياديهم بالأمس بدماء الشهداء اليوم أياديهم ممهورة بحبر الانتخابات الشرعية , وقوات الأمن المركزي والحرس الجمهوري والجيش خرجت للتصويت وبأوامر قيادية عليا , لسنا ندري لماذا هذه البهرجة الإعلامية الزائفة , هل على الدماء التي سفكت بدون وجه حق في شتى ربوع الوطن , أم على الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم فداءا لهذا الوطن , ليروا اليوم بأعينهم وأرواحهم وطنا يصوت لحصانه كاملة ومطلقة للقتلة والمجرمين ,أم على الخيانات الوطنية المتتالية والمتكررة , في المسلسل الوطني الدرامي المهول.
وطغت مظاهر الفرحة والابتهاج العارم , والمرشح وحيد فحسب و شئ من الأمور والواقع لم يتغير أبدا , والأوضاع المعيشية والاقتصادية كما هي علية لم تتغير وتلك الوعود والأحلام والأماني العملاقة بالتغيير والأفضل لم تتحقق بعد , فلماذا إذن مظاهر الفرحة والابتهاج والسرور , فالقصاص والمحاكمة العادلة ممن سفكوا دماء الأبرياء والشهداء لم تتم أو تتحقق أيضا, فالقتلة وناهبي المال العام مازالوا أحرارا طلقاء وبحصانات وضمانات دولية , والرئيس السابق مازال ينعم بالحصانة والأموال الطائلة التي لم تجمد بعد أو تعود للشعب والخزينة العامة , وقيادات الجيش والأمن كما هي علية في مواقعهم لم تتغير أو تتبدل فعليا , والأوضاع الاقتصادية من سيء الى أسوأ , فلماذا الابتهاج والمبالغة بالاحتفالات والزغاريد الثورية والإعلامية وإطلاق بشائر النصر.
كان الأولى لمن صوتوا اليوم الذهاب الى أسر الشهداء ومواساتهم والوقوف معهم في محنتهم وإطلاق الوعود بملاحقة المجرمين والقتلة ومحاكمتهم وتحقيق الأهداف الثورية واستمرار الثورة حتى تقديم الجناة للعدالة , ليس في هذا الأمر والنداء مزايدة بدماء الشهداء والوطن كما يقال لكل من عارض الانتخابات ويعزف على أنغام هذا الوتر ويروج له , فالمزايدة الرخيصة حقا لمن يجني ثمرات سياسية ومناصب مرموقة ومكاسب حزبيه ضيقه متسلقا دماء الشهداء وتضحياتهم دون أدنى شعور بالمسؤولية والواجب الوطني , أما من يدعو الى الوقوف معهم في محنتهم ومصابهم ورفع الظلم عنهم والاقتصاص لهم فما هو إلا داع لحق مشروع وواجب إنساني وأخلاقي ووطني وديني , فالثورة لم تكتمل والنصر المؤزر و الأمن والاستقرار للوطن ككل لم يتحقق بعد , ولسنا ندري أيه تغييرات منتظرة خارجة مأمولة من رحم نظام فاسد , وأيه تحولات متوخاه آتية من شرعية زائفة مكتسبة خارجيا , وديمقراطية عقيمة مفروضة فرضا , لم يتحقق فيها ابسط مقومات العملية الديمقراطية السياسية والانتخابية لتحقيقها.
هناك فاجعة حقيقية حدثت اليوم لأسر الشهداء بدون مواساة من أحد لإزالة كدر النفوس والحزن وألم الضمائر المتوجعة الضائعة في أتون السياسة وأنفاقها المظلمة المتشعبة , شاهدنا مقاطع بسيطة وجريئة تدمي القلب وتحرق الفؤاد بثتها مواقع الانترنت واليوتيوب منتقاه من أسر الشهداء وهم يزورون المقابر في هذا اليوم بالذات معبرين عن رفضهم لهكذا مهزلة انتخابية , رافضين وبشكل قاطع بيع دماء وتضحيات شهدائهم في مزاد السياسة وأسواق المتاجرة الحزبية الرخيصة , رافضين رفضا قاطعا المبادرة والحصانة الكاملة والمطلقة لمن قتلوا وسفكوا دماء أبنائهم بدون وجه حق , فهل حق لهم اليوم أن يحتفلوا بهذه الدراما الهزلية أو يشاركون بها , وان يرقصوا ويغنوا على الأنغام والأمجاد الوطنية.
انه لمن الهراء والإدعاء بمكان أن يصور اليوم انه انتصارا لأسر الشهداء والجرحى وللثورة الشبابية, وانه انتصار عظيم للديمقراطية البحتة وانه التحرر من النظام الأسري , كان الأحرى بمن صوُت اليوم أن يسأل نفسه ألف مره لماذا أصوت وماذا حققت الثورة الشعبية , وما هو الأمل المرجو والمنتظر من الانتخابات الرئاسية القادمة , وكان يجب قبلها أيضا التفكير ألف مره بأسر الشهداء والجرحى وضحاياهم , وكان يجب إعادة النظر في السلوكيات العامة والخاصة المصاحبة لعملية الاقتراع من التهميش والإقصاء لأكثر المكونات والقوى والشرائح السياسية والاجتماعية والمستقلة , وكان يجب الوقوف بنظرة جدية ومنطقيه عن حال اليمن , وما ستؤول إلية الأوضاع كليا بعد عجلة التغيير وسير العملية الانتخابية , فهذه الانتخابات أو النصر الديمقراطي -كما يحلو للبعض أن يسميها- لم تحقق ابسط أهداف الثورة الشبابية , ولم تعوض اسر الشهداء عن مصابهم الجلل في فقدان فلذات أكبادهم وذويهم , ولم تحقق العدالة الكاملة والمرجوة من إنقاذ الوطن وتحرره كليا من الحكم الأسري والنظام الفاسد.
إننا نقف أمام تناقضات عويصة ومستعصية يمر بها المجتمع اليمني , لم تترك مجالا لصحوة الضمير الوطني , أو أي شئ نقدمه لأسر الشهداء سوى الصمت والمكابرة والتجاهل والنظر بعين الرحمة لضحايا الثورة , والحملة الإعلامية المصاحبة يومها للثورة الشبابية , قدمت من الشباب وقودا لتحقيق مطامعها الحزبية والسياسية , وفي هذا اليوم بكى الشهيد ولم يصمت أنينة في قبره, ولم ترتاح روحه بعد , بل ستظل لعنة تلاحق المجرمين وكل من شارك في بقاء النظام واستمراره وإعطاءه الحصانة , فانتخابات فبراير لم تخفف ألم اسر الشهداء ولم تطفئ حرقة القلوب بل زادتها ألما ووجعا وحسرة ,الفاتحة الى روح الشهداء الأبرار , فهذا اقل ما يمكن أن نقدمه لهم , ودمت يا وطني بخير وعز ورفاه.