الزمان: يومالسادس من يونيو 2015م المكان: إحدى منازل ربوة المهندسين بفوّه – المكلّا (بيت عمّي) الحدث: نهائي دوري أبطال أوروبا بين برشلونه و يوفنتوس. كُنّا ثلاثة: خال زوجتي، و صهري، وحضرتي، و كان الهاجس الذي يشغلنا منذ صبيحة ذلك اليوم هو: كيف يمكن أن نحظى بمقعدٍ وثيرٍ- أو غير وثير- أمام شاشةً عملاقةٍ- أو غير عملاقةٍ- تنقُل لنا أحداث ذلك النهائي المُرتقب! والحقيقة أنّه يحقُّ للقارئ الكريم أن يستغرب من الجُملة أعلاه، إذ كيف يُمكن لموظّفٍ حكوميٍ مثلي، و مُقاولٍ مخضرمٍ كخال زوجتي، و طالب في المرحلة الثانوية كصهري، أن يفتتحوا يومهم بالتفكير والتخطيط لمُشاهدة مباراة كرم قدم تبدأ في الساعات الأخيرة من ذلك اليوم، و ما الذي يجعلناكعيّنة عشوائية من أبناء المُجتمع، مُتفاوتة الأعمار مُتباينة المهن، نتوافقعلى التخطيط لهدر ما لايقلّ عن ساعةٍ ونصف من الوقت في التسمّر أمام شاشةٍ ملوّنة، تنقل لنا صوراً مُتحرّكة لأشخاص -لا يعلمون بوجودنا- يتصارعون على كُرة جلد منفوخة وفق قوانين يحرص على تطبيقها رجل كبير يرتدي سروال قصير ويضع في فمه صفارة يصفّر بها طول الوقت؟! قد يظنُّ الظانّ أنّ منبع ذلك الحرص هو برشلونيّتنا الأصيلة، فثلاثتنا من مُشجّعي البلوجرانا البارزين على مُستوى المُحيط الأُسري، إلّا أنّ ذلك لم يكُن دافعنا الأكبر، فرغم تشجيعنا لها، إلّا أنّنا نُدركُ تمام الإدراك أنّ الأخت برشلونة، لا تعلمُ بوجود حضراتنا من الأساس، و لو علمت، لما همّها ذلك في شئ، مثلها مثل الأخ ريال مدريد، وباقي أفراد عائلة (لا ليجا) الكِرام، الذين تبحُّ أصواتنا تشجيعاً لهم و هم والله ما دروا عنّا! و قد يقول قائل، أنّ الميول التشجيعبة الرياضية مثلها مثل الإنتماء الديني والميول الحزبية، جميعها حاجات بشريّة ضرورية، تماماً كما قرّر الأستاذ إبراهام ماسلو في نظرية (هرم الاحتياجات) الشهيرة، و التي قرّر فيها حضرته، أن ال بني آدمين، من أمثالنا، لهم عدد من الاحتياجات مُتدرّجة الأهمّية، بدءاً من الاحتياجات الفسيولوجية البدنية، وانتهاءاً بالحاجة لتحقيق الذات، ومن بين تلك الاحتياجات، الحاجات الاجتماعية التي تقع في منتصف الهرم، والتي يندرج ضمنهاتشجيع برشلونة، واتحاد جدّة، وشعب المكلا ...وغيرهم! والحقيقة أنّ نظرية السيّد ماسلو قد تكون هي الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، لكن ليس بهذا الشكل المُباشر، فقد كان حرصنا على التخطيط لمتابعة ذلك اللقاء الكُرويّ، حرصٌ غريزيّ، نابعٌ في المقام الأول من الرغبة في التشبّث بما تطالُه أيدينا من تلابيب مظاهر الحياة الطبيعية التي بدأت تندثرُ رويداً رويداً في تلك الحقبة الزمنية، و التي كان السواد الداكن هو صبغتها السائدة! فقد كُنّا وقتها على بعد شهرين تقريباً من سقوط المُكلّا و ساحل حضرموت عموماً في قبضة تنظيم القاعدة، بعد ليلةٍ تاريخية، حقّقت فيها كلٌ من قيادة المنطقة العسكرية الثانية التي يقع ساحل حضرموت ضمن نطاق مسؤولياتها، ومعها قيادة السلطة المحليّة بالمحافظة، رقماً قياسيّاً عالميّاً في التفحيط! و كان من الطبيعي بعد هذا التفحيط التاريخي، أن (تتوه) مسؤولية الخدمات الأساسية كالكهرباء و الماء والمحروقات وغيرها، بين مُدراء عموم منقوصي الصلاحيات محدودي الإمكانيات، و سُلطة مُغتربة تحاول أداء دورها و ممارسة صلاحياتها-أونلاين-، و(دريول)* جديد مشغول بضبط مقعد القيادة على مقاسه، و(قرشبول)*... هو المجلس الأهلي... يحاول هو الآخر ضبط كُرسيّ الراكب...على مقعدته! لذلك فقد من الطبيعي وقتها، أن لا يشغل بال الموظف الحكومي-حضرتي- إلا مكان مُشاهدة النهائي، فقد كانت إدارتنا ...مثلها مثل كثير من الدوائر الحكوميّة، خارج التغطية، بعد أن قمنا بعد ليلة السقوط العظيم بالتسلل للإدارة وتحميل ما خفّ -وثقُل- من أجهزة ومعدّات وأثاث، إلى مكانٍ آمنٍ، تحاشياً لوقوع إدارتنا تحت طائلة النهب الهستيري الذي أصاب بعض الدوائر الأخرى، وأغقلنا الباب (بالقُرصة)، إلى أجلٍ غير مُسمّى! أمّا المقاول، فكان منطقيّاً أن يبدأ يومه بالتساؤل: تُرى ..ما هي الخطّة التي سيبدأ بها المدرّب لويس إنريكي مباراة اليوم؟! فالبناء و التعمير يحتاج إلى إحساسٍ بالأمان أولاً... كما يحتاج إلى وفرةٍ في المواد، و المحروقات اللازمة لنقل المواد! وكلُ ذلك كان شحيحاً في تلك الفترة! أمّا الطالب... فقد كان من حقّه أن يتخيّل -على الريق- الأهداف التي سيحرزها برشلونة الليلة و من سيسجلها، بعد أن تمّت (كَروَتَة) مناهجه و امتحاناته سريعاً، ليحظى بإجازةٍ قياسية، تُضاف هي الأُخرى لسلسلة الأرقام القياسية التي شهدتها تلك المرحلة! المُهمّ... بعد الغداء، قُمنا باستعراض خياراتنا الاستراتيجية: الخيار الأوّل، وهو مُتابعة المُباراة في المنزل،لم يكُن مُتاحاً، نظراً لأن شمس الكهرباء في تلك الأيّام لم تكُن تُشرق إلّا أربع إلى خمس ساعات يوميّاً فقط، وكأنّنا نشهدُ شتاء إحدى المُدن الاسكندنافيّة النائية! كما أنّ هذا الشروق الكهربائي لم يكُن يحين إلا بعد الساعة الثانية عشرة منتصف الليل... بعد موعد انتهاء المُباراة! أمّا الماطور... فقد كان خارج التغطية هو الآخر، إذ صاحَبَ الغروب الكهربائي الطويل، جفاف نفطيّ حادّ أصاب محطّاتنا -ومعها مركباتنا و مواطيرنا- في مقتل! إذاً...لا مناص من الانتقال للخيار الاستراتيجي الثاني: ألا و هو (السفر) من فوّه... إلى إحدى المواقع التي تنقل المُباراة في شاشة عملاقة... كمنتزهات الخور أو مقهى الباطنيّة وغيرها!، و هُنا كان لابد من التخطيط السّليم (للسفرة)،فالذهاب بالباص يعني المغامرة بعدم الحصول على وسيلة نقل تُعيدنا إلى فوّه، إذ أنّ المباراة تنتهي في وقت متأخرٍ نسبيّاً، ونحن في ظرف استثنائي، وهناك شحٌ في المواصلات سببه الشح المُشار إليه في المحروقات! واستخدام السيّارة القابعة بلاحراك في حوش البيت يتطلّب توفير جُرعة بتروليّة إسعافيّة، وهُوما يعني اللجوء لإحدى (نقاط بيع) السوق السوداء، والمتمثّلة غالباً في برميل أو بضعة براميل، تعتليها عدد من قناني المياه المعدنية والتي تحتوي على عيّنات متنوّعة من (البضاعة)، فهذا أحمر وهذا أبيض وهذا أخضر، و كأنّنا في محلّ عصير أو مشروبات غازية، و هو منظر قد يثير في نفس المارّ الغافل إحساساً بالعطش، خصوصاً وأنّنا -وقتها- في عزّ موسم الأربعينية القائظ! الإشكالية هُنا كانت في جودة هذه المشروبات البتروليّة... فقد تواترت الروايات عن المواطير والسيارات التي أصابها العطب عقِب (تجرّع)بعض تلك السوائل ... مجهولة المصدر، فهل تستحق سيارتنا المسكينة أن تُفطر على شرابٍ مغشوش، بعد صيامٍ طويل؟ و هل تستحق برشلونة ...التي لا نعرفها إلا عبر شاشات التلفاز، المغامرة بمكينة سيارتنا العتيدة... التي تربطنا بها سنوات من العشرة و الأُلفة؟! الجوابُ حتماً لا، إذاً لم يتبقّ لنا سوى الخيار الثالث، و هو خيار تبنّاه الخال: ألا وهو الاتصال بصديق، نعم، فقد كانلدى الخال عدد من الأصدقاء الذين يتمنّون خدمته، ويشاركونه ذات الاهتمام الرياضي والميول التشجيعية، والأهم، يمتلكون جهاز استقبال القنوات الناقلة، والأكثر أهمّية ..يقودون سيارة ذات (تانكي) ممتلئ ببترول عالي الجودة! فتح الخال قائمة جهات الإتصال بجوّاله... وبدأت محاولات الإتصال... الرقم الأول...فالثاني والثالث، بلاد جدوى، فشبكة الجوّال في غاية الضعف، بسبب فترات الانقطاع الطويلة للتيار الكهربائي وربما نفاذ بطاريات محطّات التقوية، و كان القيام بمكالمة اعتيادية، يتطلّب عدداً كبيراً من المحاولات... و قد كان ذلك أحد تجلّيات المأساةالخدميّة التي كُنّا نعيشها: شبكات جوّال شبه مقطوعة، ، كهرباء (مصيوعة)، أسعار مرفوعة، وسيارات تحت الديار (ملطوعة)! بعد جهدٍ جهيد، (مسك) الخطّ، و ردّ أحدهم... لكنّه كان للأسف خارج المُكلّا...، أُسقط في أيدينا، وتبخّر حُلم متابعة النهائي... إذ كان الليل وقتها قد أرخى سُدوله على المُكلا، ليُصبح وقتها الخيار الاستراتيجي الوحيد المُتاح أمامنا ... هو الجلوس على إحدى دُكك الشارع، والاستعانة (بشبط) حنظل، لتمرير ما تبقّى من وقتٍ حتّى تطلع شمس الكهرباء! وبينما نحنُ كذلك، تأتي البشارة من أحد الجيران وأصدقاء الخال: حصّلنا لكم مكان تشوفون فيه المُباراة! أحد الجيران لديه ماطور، و دُش موجّه على إحدى الأقمار التي تبث منها قناة كُرديّة... (تسرق) بثّ النهائي من الشبكة الناقلة بتعليق عربيّ! دبّ النشاط في أوصالنا من جديد، وانطلقناصوب صاحب برميل البترول، لنفاوضه على قنينة تكون من الصغر بحيث تكفي لإيصالنا للبيت القريب من بيتنا، ولا تكفي لتسميم (أحشاء) سيارتنا العتيدة! إنطلقنا لبيت الرجل،حضرميٌ بشوش، من أحد أحياء المُكلّا القديمة،انتقل للحيّ قبل سنوات قليلة، عاشقٌ كرويّ، يتابع المباراة وحيداً، وسعُد بصحبتنا له و ترجم سعادته تلك عبر كرمٍ فائض و طلاقة وجه، و حديثٍ مشوّق استمتعنا به فوق استمتاعنا بالأداء البرشلوني الراقي في تلك الأُمسية.... حسمت التيكي تاكا موقعة النهائي بثلاثية رائعة، و أشرقت شمس البُطولة على كتالونيا، أمّا نحنُ ..فقد أضاء ليلتنا تلك، نور المجورة الطيبة، و كرم الأخلاق، والتآلف بين الناس... الذي أشعله ذلك الموقف في قلوبنا، و بدّد شيئاً من كآبة السواد التي غلّفت مُختلف جوانب حياتنا في تلك الفترة... لنعود أدراجنا إلى البيت، تُحيطُ بنا الظُلمة الناتجة عن الغروب الكهربائي الطويل، لكن تحدونا السعادة بما (تحقّق) لنا في تلك الليلة، و تحفُّنا الغبطة بحصولنا على إحدى حاجاتنا المجتمعيّة الأساسية...مثلنا مثل باقي البشر، و ترافقنا -في ذات الوقت- علامة استفهام مُضيئة: تُرى كم بقي لنا من احتياجات أساسيّة... من التي ذكرها العمّ ماسلو...في هرمِه؟! * الدريول: السائق، القرشبول:مُساعدُه م.عصمت عبدالمجيد وحدين