بقلم : ناصر الوليدي كل من سكن مدينة لودر أو كان من مرتادي سوقها في الفترة من عام 1979م إلى 1986م لابد أنه يعرف أشهر مجنون في لودر وهو (عبد الحميد)، هذا المجنون ليس من أهل لودر ولا من ضواحيها، لايدري الناس من أين قدم، ومتى يسأل العقلاء عن المجانين من أي مكان جاءوا؟ فهناك عدد من المجانين الذي يفدون من عدن والمكلا وغيرها من المدن، منهم من يمر مرورا عابرا، ومنهم من يقيم فترة ثم يختفي ليجده الناس في الشيخ عثمان، وهي أكبر تجمع للمجانين في الجنوب في ذلك الوقت، حتى أن بعضا ممن يصاب بالجنون في مناطق الأرياف إذا اختفى يبحث عنه أهله فيجدونه في الشيخ عثمان، ولا تنس أيضا أن الشيخ عثمان هو محل المصحة الوحيدة في جنوب ما قبل الوحدة. لكن المجنون عبد الحميد استقر في لودر ولم يغادرها حتى أصبح جزءا من معالمها، فكل أهل السوق يعرفون عبد الحميد، فهو يمخر السوق طولا وعرضا ، ولا يترك مكانا إلا ويقضي فيه بعض الوقت، فحيثما ذهبت ستجد عبد الحميد ،في سوق الغنم؛ عند الشرطة عند المستشفى في المطاعم ؛تحت ظل العمارات، ولايمكن لمن تسوق في لودر ولو لمرات قليلة إلا أن يعرف عبد الحميد، وذلك بسبب صراخه الشديد الذي يطلقه وهو يجري بسرعة، ويصب على شعره الكثير الذي تجعد من الأوساخ والأتربة يصب عليه زيت السيارات المحترق ،حتى يشفق عليه من يراه، وكثيرا ماترى الأطفال يهرعون وراء عبدالحميد وهم يتضاحكون ويصرخون: عبدالحمييييد عبدالحمييييد ومع مرور السنين أصبح عبد الحميد من أهل لودر، فتراهم يشفقون عليه فصاحب المطعم يجلسه في ظل أحد الجدران القريبة فيطعمه ما شاء الله من الطعام، وهذا يسقيه ،وهذا يغطي جسده النحيل حين يجده مرميا على إحدى دكك الشارع في ليالي الشتاء الباردة، أما (الجلاد النخعي) فهو أكثر الناس إشفاقا عليه لدرجة أن عبد الحميد ما أن يلمح سيارته في السوق حتى ينادي فرحا : الجلااااااد، ويجري بعد السيارة ويتعلق بها، فيأخذه الجلاد إلى المطعم فيكرمه إكرام العقلاء. أما السيد الكوني صاحب المكتبة الوحيدة في لودر فكان يأمر بعض الشبان أن يمسكوا عبد الحميد فيستدعي له أحد الحلاقين ليحلق شعره ، وكثيرا ما يشتري له سراويل تستر عورته، فعبدالحميد يرفض أن يلبس المعاوز أو الشمزان ولايراه الناس إلا بسروال متسخ ممزق حتى يشتري له الكوني سروال آخر، فلا يلبث حتى تمزقه الشمس وطول اللبس، ولأن عبد الحميد مجنون فعقله لم يستطع أن يحتفظ بأسماء الناس اللهم (الجلاد) و (الكوني). مرت السنون وعبد الحميد جزء من المشهد الاجتماعي اللودري، وفي مطلع عام 1986م اختفى عبد الحميد بغير رجعه. لم يتسائل الناس عن سبب اختفائه ولا مكان رحيله فما قيمة السؤال عن مجنون ظهر فجأة واختفى فجأة فهذا هو ديدن المجانين. جاءت أحداث 13 يناير والحرب الأهلية، وخرج فصيل الرئيس علي ناصر محمد إلى الشطر الشمالي من الوطن وأقيمت للعسكريين معسكرات في منطقة السوادية وأقام بعض كبار الموظفين المدنيين في تعز وعدد قليل في صنعاء. وفي يوم من أيام النزوح تلك جاء ضابط شمالي يحمل رتبة مقدم إلى مخيمات القيادة في السوادية يسأل عن (الجلاد) و (الكوني) وألح في طلبهم وسأل النازحين من أهل لودر عنهم فأخبروه أن الجلاد والكوني لم ينزحا مع النازحين، فلما سألوه عن نفسه وماعلاقته بالجلاد والكوني وما دواعي السؤال عنهم؟ قال : أنا المجنون عبد الحميد. هل تتذكرون مجنون لودر عبد الحميد؟ أخذ البعض يتأمله حتى عرفوه. وأخذوا يتساءلون عن جنونه وظهوره واختفائه. فقال لهم : هذه كانت وظيفتي،فأنا كنت ضابطا في الأمن السياسي وانتهت مهمتي مع انفجار الحرب الأهلية. ولما اتفق النظامان عام 1989م على تسهيل تنقلات المواطنين بين الشطرين استقبل المجنون أو قل المقدم عبد الحميد استقبل السيد الكوني وأخذه إلى بيته الفخم في منطقة شيراتون في صنعاء ليقيم هناك ضيفا عنده لمدة ثلاثة أيام وليعود السيد الكوني بعد سفره إلى لودر يحمل من المقدم عبد الحميد أطيب التحيات للجلاد مع دعوة كريمة من عبد الحميد للجلاد لزيارته في منزله في العاصمة صنعاء. ناصر الوليدي - القاهرة