روى البخاري مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم : (أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا وأرق أفئدة ، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان) . وفي حديث ابن مسعود عند البخاري "الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى اليمن". فقوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان يمان والحكمة يمانية" بياء النسبة، يعني أن أصول هذه الأشياء ومنشأها من اليمن، وأما وصف قلوبهم "باللين والرقة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين، والإشارة برقة الأفئدة إلى الشفقة على الخلق والعطف عليهم والنصح لهم ، وهذه من صفات الباطن ، وكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقا من غيرهم ظاهراً وباطنا ". وقد حاول بعض شراح الحديث توسيع لفظة اليمن لتشمل مكة والمدينة، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: " أتاكم...) يدل أنه يخاطب الأنصار والمهاجرين، ليقصر الفضل والثناء على القطر المسمى باليمن. ولو تأملنا في الصفات المذكورة من لين القلوب ورقتها لوجدناها جلية في أهل اليمن، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وحاصله أن قوله "يمان" يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة لكن كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان جهة اليمن وجهة الشمال فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان". اه. وهذا المعين العذب يؤثر حتى يصل مداه إلى الراحلين عن اليمن فالأنصار ذوو الأصول اليمنية التصقت بهم رقة القلوب، والحكمة واللين ... فبمجرد أن قام فيهم أبوبكر -رضي الله عنه- خطيبا في السقيفة مذكرا وواعظا ومبينا سارعوا إلى مبايعته، وتنازلوا عن الملك فلم تكن همتهم الثورات والانقلابات، فروح خدمة الدين ونشره فوق كل شيء، ولذا لا تجد جيشا من جيوش الإسلام غزا إلا وأهل اليمن معه، وما طريف المعافري، والسمح بن مالك الخولاني، وعبد الرحمن الغافقي، وابن خلدون وغيرهم ممن لهم البصمات على بلاد الأندلس إلا خير مثال. فالرقة واللين والتواضع والحكمة كانت ولاتزال قرينة اليمني، سواء من رتع في عشب اليمن، واستقى من حكمتها ولينها، أو ممن انتسب إليها، وإن كان الفرق بينهما كما بين الأخوين الذين خرجا من رحم واحد لكن الأول رضع من ثدي أمه والآخر رضع من غيرها، فلاشك أن الأول هو الأكثر تأثرا بها وبصفاتها، وليست الخالة كأم العيال. وقد جبلت النفوس الطيبة على حب أهل اليمن، والواقع خير دليل، فاليمني لا يملك الأموال ليشتري بها القلوب لتحبه، وإنما يملك رقة وخلقا ودينا وأثر دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهوت النفوس الطيبة ذوات الفطرة السليمة هذه الخصال والمتصف بها. في اليمن في كل بيت سلاح، ولو ملكها غيرهم لرأيت الدماء تسيل في كل بيت، إلا أنك ترى مع غياب الدولة والأمن، حكمة وإيمان ورقة اليمني هي التي تحكمه. في اليمن تجد النخوة، والغيرة على الأعراض، والإيثار، والتعاطف، والتراحم جليا، متجسدا. وهنا لعلك تقول لي: لا تكثر علي أيها الكاتب، فقل لي بربك أي حكمة، وأي رقة، وأي إيمان وأنا أرى لغة العقل مغيبة، ولغة الرصاص هي السائدة، والحروب خير دليل، فكم دماء سفكت في السابق واللاحق، وكم سقت أياد الأرض بدماء يمينة فأقول وبالله أستعين: أن اليمني المتصف بالإيمان والحكمة واللين والرقة يستحيل أن يكون ساديا، وسفاكا للدماء، ولبيان ذلك أقول: 1- أن ما صدر مثلا من المجازر التي قام بها الهادي الهاشمي ومن مضى من نسله، يعود سببه إلى أن الهادي ليس يمنيا حتى تؤثر فيه هذه الصفات فيكون ذا قلب رقيق وإيمان وفقه ووو. وإنما أتى غازيا ومحاربا قوما يراهم على غير الطريق المستقيم -على حد زعمه- فاستحل دماءهم وأموالهم. فهو ومن مضى على سنته من أحفاده من الصعب أن تعطيه اليمن صفات الحكمة والرقة واللين. 2- أن معدن الأرض مع سلامة المعتقد جدولان يسقيان شجرة اليمن الوافرة الظلال الطيبة الثمار، وتخلف جدول من هذين الجدولين موت لهذه الشجرة، أو ضعف فيها، وفي الحديث ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) فتخلف جدول المعتقد: جعل الأسود العنسي ينسل عن صفته اليمنية، ويتخلق بخلقي الغلظة والإجرام المتناقضة مع أصله، فقتل المعتقدُ المنحرفُ الحكمة والرقة واللين، وأراق دماءها، وصارت في عداد الموتى، وصار الطيش والسادية صفاته، فبقي يمني الجسد لا القلب. ومن تشبه بقوم فهو منهم. 3- يقال للإنسان هذا عاقل، وإن لم يستخدم العقل حين التكلم، وإنما هو عاقل بالقوة لا بالفعل، فالنائم مثلا مغيب العقل في ذلك الوقت، لكن نقول: فلان عاقل وداهية، وذكي، و... إلى غير ذلك من الصفات الاعتبارية التي هي في تلك اللحظة مغيبة بالنوم، وربما تصرف هذا النائم تصرف غير العقلاء، فيهذي، ويفسد بيده بدون شعور، وقلم التكليف عنه مرفوع؛ لعلة النوم. ولو تأملنا في بعض اليمنيين لوجدنا أن صفة الحكمة والرقة واللين وغيرها من الصفات قد غيبت عنهم لمانع من الموانع، ومنها مثلا: أن العقل الذي يفكر به ذلك الجسد أصبح مستوردا، فعطل صفاتِ الحكمة والرقة واللين، وبقي الجسد اليمني كرجل آلي يتصرف فيه صانعه، فالجسد يمني، والعقل على سبيل المثال لا الحصر: إيراني أو إماراتي. وهنا ستضعف الحكمة، والرقة، واللين، وسترى تلك الأجساد تبطش بلا رحمة، وتتصرف بلا حكمة، فهي مسيرة لا مخيرة. فلا تقل لي: لا أرى الحكمة والرقة المخبر بها في الحديث عن اليمن بسبب ما تراه من هؤلاء. فهؤلاء بحاجة إلى نصيحة، ورشد، واستفاقة، وانتباه ليعودوا إلى يمنية الصفات. 4- أن ما نراه من البطش والقتل هو من قلة قليلة مع مجتمع متصف برحمة ولين وحكمة، والحكم لا يؤثر فيه الندور، وتخلف الجزئيات عن الكيلة لا يؤثر، خاصة إذا علم علة خروج تلك الجزئيات عن هذه الكلية. فيا أرباب الإيمان والحكمة والرقة واللين، لن تقف الحرب في يمننا الحبيب وعقولنا ليست يمنية، ولن يقف الشر ونحن نتخلى عن الصفات اليمنية التي دعا النبي صلى الله عليها وسلم لأهلها، فالنصيحة النصيحة، والتحلي التحلي بهذه الصفات، فأنتم سادة العالم بها، وأنتم مدد الإسلام بها، وأنتم بلاد البركة والنعمة بها، وأنتم بلاد الحكمة والإيمان، والفقه بها. يا أهل اليمن: كفاكم حروبا وفرقة، وتشرذما، والله إنها لا تليق بكم، كفاكم فتنا، فلستم منها ولا لها. إن أجسادكم تنادي بعودة عقولها، إن بلادكم تنادي بتحكيم عقولكم، إن العالم أجمع ينتظر كلمتكم أنتم، كلمة اليمني التي خرجت من قلب يمني، من عقل يمني، بحكمة يمنية، ليقول هذا صحيح وهذا خطأ. معا لدفن الأحقاد، ولنبدأ صفحة جديدة، ونشيد وطنا يسع الجميع، ولتعل فينا راية الإيمان والحكمة والرقة والفقه، ففيها صلاحنا ونجاحنا. الفجر قادم، والليل سيدبر بلا رجعة، اللهم سلم اليمن وأهله من كل شر، وردنا إليك ردا جميلا.