عفيف السيد عبدالله * الحكومة البريطانية موهوبة بشكل خاص عند خروجها الطوعى من مستعمراتها السابقة في إخفاء نقاط خلاف أساسية بين المشاركين في محيطهم الجغرافي, والذي من شأنه أن يقوض التعاون بينهم, وقد يصبح أكثر تعقيداً بما يكفي ليتحول إلى نزاع وصراع دائم وكوارث إنسانية, كما في كشمير , فلسطين, جنوب السودان, جنوب إفريقيا, وجزر فيجي.. ولسوء حظ عدن هذه الموهبة تحولت إلى كارثة إنسانية عام 1967م, وكأنه العام الأخير, حين سلمت بريطانيا حكم عدن إلى أبناء جيرانها في الجبهة القومية (الحزب الاشتراكي لاحقا ً) القادمون من أعماق البداوة القديم, من المحميات والمشيخات والولايات والإمارات السابقة, الذي كان النظام الانجليزي لا يتجاوز الإشراف عليها. و هي سابقة لم تحدث من قبل وصارت من أحاجي التاريخ. وكان لهذا الاستقلال المغشوش عواقب حقيقة .. حكم بوليسي استبدادي, ومعسكرات اعتقال ومراكز تعذيب وحشية, وانعدام أسباب المعيشة وكمالياتها, ومنع السفر إلى الخارج, ومظاهرات قسرية لتخفيض الأجور والمرتبات, وطوابير الغذاء الطويلة منذ الصباح الباكر, وآلاف الكوادر العدنية فروا من البلاد, وإعطاء أعضاء الحزب مزايا عن الآخرين, و تملك أحياء بكاملها, ولغة حزبية متعالية ومهينه للناس, وتوسيع تعريف كلمة الخيانة لتشمل إنتقاد الدولة, وكل شي محل تنازع, رفاق حزب وجنود وشرطة يقاتلون بعضهم بعضاً في حروب مناطقية وقبلية لم يكن لعدن مغنم ولا مغرم فيها, خلفت وراءها عشرات الآلاف من القتلى ( من مجموع مليون ونصف من السكان ). احتلال بالمممارسة, موت بطئ, حكم لم يوجد فيه كما في دولة الوحدة, أي رشد أو نضج في العملية السياسية والاقتصادية, إتسم بعدم الكفاءة والفساد الأخلاقي والوحشية, وبالإنغلاق الفكري التام بشأن مواضيع مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والشفافية,. حين يعود المؤرخون بأنظارهم إلى تاريخ عدن وهو بحسب الموسوعة الحرة بموقع ويكيبيديا موغل جدا في القدم وربما يعود الى البدايات الأولى لتاريخ الانسانية. فإن الأرجح أن تظغى " المدينة الدولة " فيه على الرواية كلها, وبوسع عدن أن تنسب إلى ذاتها مؤهلات نادرة .. معولمة منذ المولد, لموقعها الاستراتيجي الهام وميناءها الطبيعي. مدينة مليئة بالحيوية وآسرة, وأبناؤها ذوى حضارة عريقة وثقافة ومدنية وخبرة ووطنية وقبول للآخر. وكانت تنطلق منها طريق البخور ومادة اللبان والأعشاب الطبية التي كانت لها أهمية في حياة الشعوب القديمة. والعصر الذي شغلته يشمل عهود بابل وآشور والفرس واليونان والرومان. و كانت قبل الميلاد وما تزال نقطة التقاءRendezvous للسفن القادمة من الشرق والغرب وتوفر لهم إمكانات إيجابية للتموين والتبادل التجاري. حتى الذين يمرون منها كانوا يبدون نوعا من الإحترام العام تجاهها. زارها بن بطوطة حوالى العام1331 الذي وصفها بالمركز التجاري القوي وبالثراء الفاحش, وأنه في بعض الأحيان كانت السفينة بكامل حمولتها مملوكة لفرد واحد من سكانها, و كان هذا مصدر فخر وتنافس فيما بينهم. يحثهم في ذلك إنشغالهم في التجاره و إدارة الميناء. و قال ماركو بولو انه زارها في عام 1285 وقدر عدد سكانها بنحو 000,80 مواطن, وكذا الرحالة الايطالي المشهورVarthema Di في عام 1504 الذي كتب انها مدينة فائقة الجمال, وثرية جدا, تحيط بها جبال وحصون قوية لم يرى مثلها من قبل في مدينة في مستوى الأرض, وقدر أنها تضم نحو ستة آلاف عائلة, وفي عام 1421 أثناء حكم سلالة Ming أمر الإمبراطور الصيني Yongle بإرسال مبعوث له فوق العادة, ترافقه ثلاث سفن محملة هدايا ثمينة الى ملك عدن, وقد أبحرت السفن الى عدن من ميناء سومطرة, كما ورد في كتابYing yai Sheng Lan وفقا لMa Huan الذي رافق البعثة. وفي القرن الأول قبل الميلاد اطلق عليها الرومان الإسم Eudaemon ويعني السعيدة, وارسل الإمبراطور الروماني Augustus حملة عسكية إستكشافية اليها بقيادة Aelius أنتهت بضياع وهزيمة القوات الرومانية, وكان السبب الرئيس للحملة هو ثروة عدن أو Eudaemon من البخور و اللبان والبهارات, وهي منتجات مصدرها الأساسي الهند والقرن الإفريقي. وتفيد الموسوعة ايضا أن عدن عاشت برفاهية وفي العيش الرغيد عبر تاريخها كله الممتد آلالف السنين فيما عدا الفترة التاريخية القصيرة والبائسة التي حكم فيها عدن سلطان لحج محسن فضل التي عرضها على الإنجليز كتعويض مقابل البضاعة التي تم الإستيلاء عليها من السفينة داريا دولت المملوكة لشركة الهند الشرقية البريطنية, فرفض الإنجليز العرض في البدء, ثم أستولوا على المدينة لاحقا في 19 يناير 1839 بقيادة القبطان ستافورد هينس. إذا كانت ثمة اشراقة في تاريخ الإقليم والمنطقة كلها فقد كانت عدن, والتي عرفت في الداخل و الخارج بالمدينة الميناء المستقلة, ماعدا فترات تاريخية قصيرة جدا ارتبطت فيها مع الغير, مقارنة بتاريخها الطويل الممتدالى قبل الميلاد بآلاف السنين. و تميزت وحدها في المنطقة بهذا الوضع. وتوجد شواهد تاريخية هامة يوردها الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه في كتابه القيم "تاريخ اليمن القديم" الى أن كلمة "يمنت" هي إسم لمنطقة جنوب الجزيرة العربية" وليس لدولة - موحدة أو منفصلة - كانت قائمة فيها .ويوكد أنه " آنذاك عاشت على مسرح الحوادت ممالك في فترات متداخلة ومتعاقبة. وكانت تلك الممالك على الأغلب, متعاصرة متعاونة, أو متنافسة متناحرة, كل واحدة تستقل بنفسها تارة وتدين بالولاء لبعض جارتها تارة أخرى". ترتب عن هذا في المنطقة تشكيلة واسعة من الثقافات المتنوعة لم تستطع الذوبان في بوتقة الوحدة ومن قبل في دولة الجنوب. أما الكلام الذي يدور حاليا عن موضوع الأصل والفرع فليس سوى هراء. الآن ونحن في خضم نقطة تحول كبرى في تاريخ السلطة في المنطقة والعالم العربي، يمكن لأبناء عدن أن يكونوا أكثر المستفيدين من هذه اللحظة المؤيدة للتحرر والديمقراطية والمدنية والشفافية وتداول السلطة، ومايفعلونه اليوم سوف يحدد كيف ستروى قصتهم فيما بعد. مابدا لوقت طويل أمر غير مرجح أخذ يحدث, وصار بوسعهم ان ينطقوا بحقوقهم والمطالبة بتحقيق العدالة لهم, وترتيبات خاصة لاعادة تأسيس مدينتهم وتصحيح موقع النفوذ, لتخرجها من عبآءة الأخرين, وفقا لصيغة قائمة على الفطرة السليمة, لوضع حد لمعاناة اصحاب الأرض. الصيغة التي وضعها الغرب من قبل لسنغافورة وهونج كونج عند خروجه الطوعي منها, وكوسفو والجبل الاسود وغيره قبل بضعة سنوات. وعدن تتمتع بمقومات وقوة كافية لدعم ركائز نظام سيادي إداري خاص بها, وهو حق تاريخي أصيل, وامر حتمي وممكن, وعملا مقبولا وليس خطيئة, وعلى الحراك ان يفهمه كجزء من قضيته العادلة, ويفهمه الآخرون المشاركون في مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده, وكذا العالم الخارجي الذي يعرف الكثير عن ثقافة عدن. وتمديد قانون العدالة الاجتماعية الى عام1967 بما يسمح لأبناء عدن مساءلة كل من قاد وعبث وأرتكب جرائم وأخطاء كارثية بمدينتهم, قبل وبعد الوحدة, إحتراما لكرامة الشهدا والضحايا, ورغبة في الحماية ورفع الضيم, فثمة خطر حقيقي ان تعود عنصرية ومظالم الماضي. * خاص عدن الغد ) خبير مالي بالبنك الدولي World Bank سابقا (*