" إذا تحدث الكبار ، انتهى الحوار " . . جملة مكتوبة على لوحة إعلانية كبيرة معلقة منذ سنوات على إحدى المباني العالية في تقاطع الدائري – شارع حدة ، بصنعاء . قرأتها مئات المرات سابقا و لم أعرها اهتماما ، و لكنني أعطيتها عناية فائقة في الأسابيع القليلة الماضية لأنني عكستها على المستجدات في الأوضاع السياسية المتأزمة التي نعيشها اليوم ، أو هي من ذاتها انعكست . . صحيح إن الجملة إعلانية معنية بتكنولوجيا صناعة السيارات المتقدمة ، و لكن إذا جعلنا مضامينها خاصة بمستوى " تكنولوجيا السياسات اليمنية المتخلفة " فإن معناها اليوم سيكون : " إذا تحدث الكبار ، و لعبوا بجوانب الحوار ، فستتعاظم الأخطار " و المقصود هنا مؤتمر الحوار الوطني . يبدو أن العمليات السياسية العميقة التي يعيشها اليمن منذ بداية العام الماضي اتجهت في نهاية شهر يناير 2013م. نحو منعطف جديدا . إذ تدل المعطيات على توصل معظم قادة القوى و الأحزاب السياسية المنضوية تحت مظلة المبادرة الخليجية و آليتها التنفيذية الموجودين في قيادة الدولة و خارجها ، إلى تفاهمات و اتفاقات جانبية غير معلنة و غير رسمية على حل مواضيع خلافية رئيسة كانت تبث الخوف في القلوب . منها ، مثلا : ما يخص مؤتمر الحوار الوطني ، و هيكلة القوات المسلحة ، و كيفية التقسيم الإداري للبلاد مستقبلا ، و ما شابها .
هناك مؤشرات واضحة في الخمسة الأسابيع الماضية على حدوث مثل هذه التفاهمات و الاتفاقات التي جاءت الأنباء عنها صحفيا و إعلاميا عبر عدة صحف و مواقع إعلامية . . و أنه لمن الايجابي و ليس عيبا أن يتفق كبار قادة البلاد الرسميين ، أو قسم منهم ، على مواضيع هامة ، فالمهم هو : هل هذه الاتفاقات إيجابية و ستكون آثارها و نتائجها كذلك ؟ . . أم أنها ستكون على طريقة : " إذا تحدث الكبار ، انتهى الحوار " و هي الطريقة التي أتبعها نظام الحكم السابق المخلوع منذ عام 1994م. و كان للحراك السلمي الجنوبي شرف الريادة في مقاومتها التي طالت و امتدت حتى قيام الثورة الشعبية السلمية عام 2011م. في عموم اليمن . حين كشف الشعب زيف النظام السابق الذي جعل الشعب بعيدا عن رسم السياسات ، و هو ( النظام السابق ) المؤلف و المخرج و الممثل ، و ما الشعب إلا متفرجا .
من الواضح أن جو التفاهمات و الاتفاقات الأخيرة بين القوى السياسية الحاكمة ، قد شمل : مسالة شكل الدولة القادم بإقامة خمسة أقاليم يكون جنوب البلاد فيها إقليمين . . و بالنسبة لمؤتمر الحوار الوطني أتفق على زيادة عدد المندوبين للمكون الثالث ( فعاليات أخرى ) من : 76 مندوبا إلى : 101 مندوب بحيث يكون إجمالي المندوبين : 590 مندوبا . و البعض أفاد أو فهم بأن عدد المندوبين في المؤتمر وسع ليصبح : 601 مندوب . و البعض الآخر رفع العدد ليكون : 666 مندوبا . فلا أتفاق رسمي و مكتوبا . و الاتفاق الثالث بشان مؤتمر الحوار الوطني ، هو أن يتم تركيع الحراك السلمي الجنوبي للمشاركة في المؤتمر سواء بالرضى أو بالصميل . و هو الفصيل الكبير الذي أشترط ثمان نقاط هامة للمشاركة في المؤتمر ( القاهرة : 24 يونيو 2012م. اجتماع الهيئة الجنوبية مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن السيد جمال بن عمر ) .
و في هذا السياق نشرت أنباء عن اتفاقات أخرى هامة ، منها : تأجيل تنفيذ عملية هيكلة القوات المسلحة أولى المطالب الملحة ، و بقاء كل من القائدين العسكريين الكبيرين المؤثرين أثناء أزمة عام 2011م. المؤيد للنظام السابق و المؤيد للثورة الشبابية بإدارة مباشرة لما بين : 21 - 25 لواءا عسكريا ، بالأضافة إلى ما هو غير مباشر . و بقاء الرئيس السابق المخلوع برضاه داخل اليمن و عدم المطالبة بخروجه منها . . و هناك أنباء متفرقة عن اتفاقات على حلول لموضوعات خلافات جزئية أقل مستوى في الأهمية ، باستثناء الاتفاق على ميزانية الدولة لعام 2013م. و التي احتوت على زيادة كبيرة في ميزانية لم تشهد لها الجمهورية اليمنية مثيلا في العقدين الماضيين .
لعل أهداف الاتفاقات و التفاهمات المذكورة جاءت بنيات حسنة ، و أتت نتيجة لدوافع قوية تعكس حالة الوضع السياسي القائم في البلاد بتعقيداته المتنوعة و الكثيرة . و من أهم تلك الدوافع و الأهداف :
- تيقن الجميع الآن من أن الإصلاحات القوية الطائلة لأدوات السلطة و النظام السياسي و بعض آلياته التي بدأها فخامة الأخ الرئيس عبدربه منصور هادي منذ فبراير 2012م. أصبحت تواجه مقاومة شرسة و مصاعب جمة و عوائق قوية متجددة . و بالتالي لن يتم التسريع بالإصلاحات – بعد الآن - بالوتائر المتسارعة السابقة .
- من إيجابيات الجو السياسي المستجد تحاشي تفاقم الخلافات بين " الكبار " إلى اختلافات ، ثم مواجهات ، ثم صراعات .
- الخوف مما يحدث حاليا في دول الربيع العربي ( مصر – تونس – ليبيا ) و على وجه الخصوص في مصر . في أن تحدث في اليمن عودة لاضطرابات حالة السلطة و الحكم و الأمن .
- اصطفاف القوى المتشاركة في السلطة و المتقاسمة لها على أرضية منطلق مجابهة أية انبعاث للثورة الشبابية أو الثورة الشعبية السلمية قد ينتج بسبب ضعف الإصلاحات للنظام السياسي و الإداري للدولة و الاقتصاد أو بطئها ، و تدني مكافحة السلبيات الكبيرة العامة .
- تدني ثقة المواطن بالنظام جديد . مما يخلق الوئام بين أركان السلطة لتفادي إهتراء القاعدة الجماهيرية المؤيدة لها بسبب بقاء كثير من أساليب و أدوات و آليات الحكم السابق في الحكم الحالي ، و التي تجعل من وجهة النظر السياسية تسمية الحكم الحالي الانتقالي بالنظام السياسي الحالي / السابق . أو : السابق / الجديد .
- تخوف الدول الراعية للمبادرة الخليجية للانتقال السلمي للسلطة في اليمن . من اتخاذ مواقف واضحة و بينة و حازمة من المنازعات الناشبة بشأن كيفية الإصلاحات الرئيسة و حل المشاكل المعقدة القائمة لريبتها في أن تصبح طرفا من أطراف الأزمة اليمنية المباشرة . و بالتالي أصبحت القوى الإقليمية و الدولية – إلى حد ما - تتبع القوى السياسية اليمنية النافذة في عمليات الانتقال بالسلطة ، و ليس العكس كما جرى لعام مضى .
- يعتبر البعض إن الاتفاقات الأخيرة لا تخل كثيرا بالتوازنات بين مراكز القوى و النفوذ السياسي السلطوي القائمة حاليا و تلك التي كانت سائدة قبل قيام الثورة الشعبية السلمية عام 2011م. و بالتالي فإن هذا يعد من وجهة نظر هؤلاء استقرارا لحالة حرارة جسد السلطة و سخونة أطرافها . - تعتبر أغلبية القوى و الأحزاب السياسية المنضوية تحت مظلة المبادرة الخليجية الموجودة في قيادة الدولة و خارجها إن الحراك السلمي الجنوبي هو القوة المعيقة الأساسية لمجرى العملية السياسية الراهنة في اليمن ، و أن تطويعه و تليينه و تركيعه للمشاركة فيها مهمة ذات أولوية . و إن كانت تلك القوى و الأحزاب تختلف ( إلى حد ما ) على كيفية و أسلوب القيام بذلك ، فإن الاتجاه الغالب لها جمعة هو القيام بذلك بشتى السبل الممكنة . و لا يشذ عن التوافق سوى الحزب الاشتراكي اليمني و التجمع الوحدوي اليمني .
- في مجرى الانتقال السلمي للسلطة من النظام السابق إلى نظام تقدمي جديد ، تجمع القوى و الأحزاب السياسية الحاكمة المنضوية تحت مظلة المبادرة الخليجية على المضي بالعملية السياسية كيفما كان لأن السياسة كما يقال " فن الممكن " و أسهل من سير العملية السياسية ب " إدارة المخاطر " لأن الأسلوب الأخير أصعب .
إن المشكلة الكبرى المصاحبة لمحاولات بناء يمن جديد التي ظلت و ما زالت ماثلة هي ضعف و هشاشة التوقعات المستقبلية بشأن الخطوات و الإجراءات السياسية المتخذة و نتائجها و آثارها المحتملة . فهنا يميل الباحثون المعتدلون إلى الوسطية ، و يميل الباحثون الصارمون إلى أسوأ الاحتمالات ، أما السياسيون فيميلون إلى مصالحهم ، و بالذات إلى الترويج لخططهم و تنفيذها ، و من موقف السياسيين تنبع خطورة إمكانية عودة السلطة للعمل بطريقة : " إذا تحدث الكبار ، انتهى الحوار " . . و بناء عليه فإن الدوافع / الأهداف التسعة السابقة الذكر للتفاهمات و الاتفاقات السياسية التي أتسم و يتسم بها الجو السياسي للسلطة الحاكمة الانتقالية في البلاد منذ مطلع العام الحالي ، قد تكون لها أيضا نتائج مختلفة غير متوقعة لديها ، و من أهمها تلك النتائج غير المتوقعة :
- يمكن عقد مؤتمر الحوار الوطني كيفما كان بهيمنة القوى السياسية المتقاسمة للسلطة و قيادة الدولة ، و سيأتي هذا على حساب القوى السياسية و الاجتماعية الأخرى الأوسع تواجدا المقصية أو المظلومة تمثيلا . و بالتالي فإن مخرجات المؤتمر ستكون ضعيفة ، و أيضا سيكون مستوى قوة ماكنة تنفيذها ضعيفة هشة .
- ينطبق ما ورد في البند السابق على مسألة " القضية الجنوبية " في مؤتمر الحوار الوطني . فإذا لم يكن تمثيل قوى و مناطق الجنوب جديا و حقيقيا ، و إذا فرض على الحراك السلمي الجنوبي المراد له أن يدخل المؤتمر منكوس الرأس لا مرفوعه ، فإن " القضية الجنوبية " ستتفاقم و ستبقى ناشبة إلى ما بعد مؤتمر الحوار الوطني ، و ستستفحل .
- التوافق على تعديلات طفيفة على تركيبة التوازنات بين مراكز القوى و النفوذ السياسي السلطوي القائمة حاليا و تلك التي كانت سائدة قبل قيام الثورة الشعبية السلمية عام 2011م. سيشجيع بقاء حالة هيمنة القطبين في السلطة ( مهرجان صالح في السبعين : 27 فبراير 2013م. ) . و إذا استبعدنا الشخوص / الرموز فإن البقاء المذكور يتعارض تماما مع المشاركة السياسية الشعبية الواسعة في رسم السياسات و صنع القرارات المصيرية . و بالتأكيد أنه سيثير السخط الشعبي على نطاق واسع . و هذا السخط بدأت مؤشراته في الصور و الشعارات التي رفعتها المسيرات الجماهيرية لأول مرة في " تعز " بتاريخ : 26 / 2 / 2013م. ( صور تجمع السادة : صالح و علي و حميد )
- احتمال إعاقة " القضية الجنوبية " لمؤتمر الحوار الوطني . فبدلا من أن يبدأ تنفيذ نقاط الحلول ال 20 لتهيئة الجنوبيين للمشاركة في المؤتمر . تعرض الحراك السلمي الجنوبي و ابناء المناطق الجنوبية لموجة عارمة من القمع المنظم ابتداء من يوم : 21 فبراير . و بينت حالة العصيان المدني التي استمرت هناك لأكثر من أسبوع فشل سياسة التعامل مع القضية الجنوبية وفقا لأسلوب تركيع الحراك السلمي الجنوبي بالقمع و القوة ، لأنه بالفعل القوة السياسية الرئيسة و الأكبر في مناطق الجنوب .
- تأجيل إجراءات حيوية ملحة ، مثل : هيكلة القوات المسلحة و حل مظالم الجنوبيين العاجلة ، و الإبطاء في إجراءات إصلاح نظام الدولة و هيئاتها إلى حين آخر تتخذ فيه لاحقا و كأنها من خيرات مؤتمر الحوار الوطني سيؤدي إلى إثقال كاهل مؤتمر الحوار الوطني . و قد يؤدي إدخال المؤتمر في تفاصيل تلك الخطوات و الإجراءات بدلا من القضايا و المسائل الإستراتيجية إلى فشله .
- الاتجاهات الساعية للتحكم بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني سواء من قبل القوى و الأحزاب السياسية الحاكمة المتقاسمة للسلطة ، أو من قبل بعض الدول الراعية للمبادرة الخليجية أو بعض القوى الدولية المؤثرة ، و عبر وضع مشروعات حلول و معالجات و مقترحات نظرية مسبقة جرى إعدادها و يجرى الآن ، قد يأزم مؤتمر الحوار الوطني نفسه بسببها لأن الأطراف الأخرى المشاركة في المؤتمر ليس لديها نفس الأموال الكثيرة و الإمكانات الوافرة لأعداد و وضع مشروعات حلول و معالجات و مقترحات نظرية مسبقة تعبر عن رؤيتها . . و يفترض ، بل يجب أن توضع مشروعات الحلول و المعالجات و المقترحات الآن من قبل آلية مناسبة مكونها ممثلين لقوى سياسية و اجتماعية واسعة يحضون بتوافق جميع القوى السياسية و الاجتماعية . أو فالأفضل من قبل المشاركين في المؤتمر أنفسهم و بنفس الحصص للتمثيل .
- كل العوامل السلبية المتوقعة التي ذكرناها آنفا تولد تعاظم أنماط الشعور بأن الثورة الشبابية أو الثورة الشعبية السلمية قد تم احتوائها أو هي سلبت . مما يولد بدوره مدا متصاعدا في الاحتقان الشعبي تجاه السلطة و الظلم الاجتماعي ، و في حدة أساليب مطالب التغيير العاجلة . . و على المدى المتوسط قد يؤدي ذلك إلى قيام ثورة ثانية مثل ثورة عام 2011م. و في المدى القريب المنظور بدا أن من نتائجه أن يصبح " الحراك السلمي الجنوبي " القوة الثورية السلمية الأولى المعارضة للسلطة ليس على مستوى مناطق الجنوب و لكن على مستوى اليمن كله ( مناطق الشمال أيضا ) . و هذه حالة سياسية أتت مفاجئة لكل التوقعات بأول مؤشراتها التي دلت عليها مضامين الشعارات التي رفعتها و رددتها المسيرات الشبابية و الشعبية في كل من صنعاء و تعز في الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي ، و التي رفعت و رددت لأول مرة ( و إن بأعداد متوسطة ) و منها ما هو متطرف ، مثل : يا جنوب سير سير نحو تقرير المصير .
ليس هناك من مواطن في اليمن ، جنوبه أو شماله ، لا يريد استقرار الأوضاع المضطربة و حل جميع المشاكل المتراكمة حلا نهائيا . فلقد سئمنا جميعا تعليق الحلول ، و تواصل الصراعات السياسية و الحروب الهامشية و التي كان من أكبر أسبابها " الكبار " الذين يعملون بما أوتوا به من سلطة و قوة و جاه و مال على التحكم بالأحوال و السياسات و مجريات الأمور و طبيعة المعالجات . ثم نتحمل جميعا بعد ذلك نتائجها الخاطئة . و لقد كانت ( الصراعات و الحروب و المشاكل الكبيرة ) تقل كلما ساير هؤلاء الشعب و لبوا مطالبه و تجاوبوا مع مصالحه و أمانيه . فمن حق هؤلاء أن يشاركوا في الحوار الوطني بروح الشعب و الديمقراطية و ليس بروح التسلط و التحكم و المسرحيات السياسية المعدة سلفا . . لذا نقول - و بالرغم من أن مؤتمر الحوار الوطني ما زال يواجه مصاعب فنية و سياسية كبيرة - دعوه يكون مؤتمر حوار وطني حقيقيا مهما كانت المصاعب و مهما كانت الاختلافات بشأنه . . و نقولها صراحة " إذا تحدث الكبار . . و تحكموا بالحوار . . تاه المسار " . . خوفا من الله ، و من أجل اليمن ، و من أجل الشعب ، من أجل الناس المواطنين الذين ملوا عبث الساسة طوال حياتهم . عليهم أن يبعدوا عن تسيير مؤتمر الحوار الوطني كيفما شاءوا ، عليهم أن يبعدوا هذه المرة عن اللآعيب السياسية ، و التمثيليات المسرحية المملة ، و شراء الذمم و الهبر بأسم الفعاليات الوطنية المقدسة ، عليهم أن يكونوا جادين و مخلصين و صادقين . . هنا سينجح الحوار دون شك .