تنفرد بنشر مذكرات ( الطريق إلى عدن ) الرئيس علي ناصر : الحلقة ( السادسة والثلاثون ) متابعة وترتيب / الخضر عبدالله : رمضان وليلة "امؤرة" من خلال مذكريات الطريق إلى عدن يواصل الرئيس علي ناصر حديثه عن محطات حياة وفي هذا العدد يسرد لنا عادات وتقاليد شهر مضان وصلاة الكسوف والخسوف بولاية ديثة قائلاً :" قلت للعم سليمان: كيف تقضون وقتكم في شهر رمضان؟ قال العم سليمان: في شهر رمضان الكريم، وهو شهر الخير والبركة يتجمع الناس في كل قرية ليشاهدوا الشهر (هلال رمضان) ولكن الذي يستطيعون أن يروا الهلال هم الشباب الذين يشربون سمن وعسل، وبعض الناس يضعون على عيونهم قماش أبيض رقيق يشاهدون به الهلال ويظهر لهم مثل الخيط الأبيض، وعندما يشاهدونه يقفزون من الفرح ويصيحون رمضان رمضان، ويتجمع الناس في المساجد والبيوت ويستعدون ويحضرون دقيق البر الذي يأتي من "الظاهر" بمرتفعات مكيراس وأرض العوالق وبيحان, لأن بلادنا لا تزرع القمح وعند السحور تبدأ النساء في إعداد الدقيق البر على الطاوة والسليط يتطاير من تحته ورائحة الدخان تملأ البيت والأولاد الصغار منتظرون في "امخدم" (المطبخ)، وبعض النساء يسكَتون الأطفال بأول قرص، والباقي يتجمع حتى يفتوه ويتحول إلى الكعدة أو الصحفة ويرشون عليه سمناً وعسلاً وبعضهم زيت السمسم "سليط"، وتسمى هذه الوجبة "الأرة" وتطبخ لمرة واحدة في بداية شهر رمضان فقط، وأعتقد أن كلمة (الأرة) تعني غرة رمضان، وعندنا ينطقون الغين ألفاً والقاف غيناً والضاد لاماً مثلاً عوض "عول" و"ابت" امشمس يعني غابت الشمس و"حامل" بتشديد اللام يعني حامض وغير ذلك. والمهم أني لم أتحدث مع العم سليمان عن هذه التفاصيل عن الغين والضاد والقاف لأنه لن يستوعب مثل هذه الأمور.
قلت للعم سليمان: وبعدين ايش تسووا؟ قال: نأكل أمؤرة وننوي الصيام وننام قليلاً وبعدها نقوم نصلي الصبح وبعضهم يذهبون إلى المسجد حتى أذان وصلاة الفجر وأول يوم يكون صعباً علينا خاصة نحن الذين لجر (ندخن) وابتلانا ربك بهذه امداعة. وقال: نذبح ونحضر التمر الذي يأتينا من وادي حجر (بحضرموت) والماء والقهوة ونتجمع في المسجد وننتظر الأذان، وأحسن فرحة بعد صيام أول يوم, الأذان عندما ينطلق الله أكبر من "ثُم" (فم) أبوك صالح بنيص إمام المسجد. وبعد الإفطار نصلي ونتوجه إلى البيوت ونشرب قهوة وكسرة مخلم ومرقة اما العشاء فيكون بعد صلاة التراويح، حتى لا نثقل على بطوننا اثناء الصلاة.
وطوال شهر رمضان نقضيه بالصيام والصلاة والدعاء والاناشيد والقرآن ونسهر معظم الليالي في مسجد بعد صلاة التراويح بقراءة الاناشيد والاحاديث من قبل العلماء والزوار حتى ينتهي رمضان. وفي يوم امعيد بعد الصلاة نخرج امقبرة ونلتقي نحن وأهل امقوز عند قبر الشيخ علي صالح با مرحول ونحن نردد "امشل (1)" حق امعيد وكان صوت ناصر الشيبة وابنه حسين من أجمل الأصوات التي تردد امشل وكنا نردد بعد بوك صالح:
يا الله بعودة وعوّدنا من السالمين باسم الإله استعن بالله في كل حين يا مالك الملك يا من هو من القاصدين على الجبل يا الله اكتبنا مع الواقفين توبوا إلى الله قولوا كلكم أجمعين تبنا إلى الله قولوا كلكم أجمعين إنا وقفنا ببابك للدعاء طالبين والجود جودك وخلقك يا قوي يا متين توسلوا كلكم في الله يا حاضرين قولوا بهمة قوية ربنا با يعين إلى متى لا متى وأنتوا كذا غافلين
مجالس الخير دائم منها شاردين كأنكم من عذاب الله مستأمنين ما يأمن المنكر إلا الفرقة الكافرين توبوا إلى الله قولوا كلكم أجمعين تبنا إلى الله قولوا كلكم أجمعين يا الله بعودة وعودنا من السالمين
صلاة الكسوف والخسوف
ويضيف الرئيس ناصر :" وسألت العم سليمان عن صلاة الخسوف والكسوف وعادات الناس فقال: كان الناس زمان إذا احترق امشهر (خسف القمر) خرجوا بطبولهم وطويسهم كل واحد من فوق بيته يدق طبله وماعونه وكانوا يخافون ويدعون ربنا انه يرحم امشهر ولا يعذبه ويفرج عليه, ولا يحرقه بذنوبهم, لأنهم كانوا يقولون إن الله يحرق امشهر ويعذبه بسبب ذنوب الناس. وان القمر قال لله عذبني يا رب ولا تعذب أمتي وانه تشفع للناس عند ربي, وكانوا يقولون إن ذنوب الناس كلما زادت كلما زاد عذاب امشهر وكلما حرقه ربي وزادت فترة احتراقه. وكان الناس يستغفرون الله بأعلى أصواتهم داعين الرحمة للقمر مستغفرين الله عن الذنوب التي ارتكبوها وهم يكبرون بأعلى أصواتهم: الله اكبر الله اكبر، يا رب أرحمنا برحمتك، يا رب أغفر لنا ذنوبنا، يا رب نجنا من النار، وكانوا يقولون: أصحوا يا غافلين استغفروا الله يا غافلين. وكان البعض يبكي من الخوف ويصلون ويدعون الله، والكثير منهم يذبحون الذبائح لوجه الله ويوزعون لحمها على الفقراء والمحتاجين, ويقوم الشباب والصبيان بإشعال النار على رؤوس الجبال وفي بطون الوديان وحول القرى لتنبيه القرى الأخرى بحدوث الخسوف, وكان الناس يمنعون المرأة الحامل من الخروج من منزلها ومشاهدة خسوف القمر حتى لا يصاب الجنين بأي مكروه أو حتى لا تنطبع علامة الخسوف على جسمه بما يشبه العلامة الحمراء.
وأضاف العم سليمان: وبعد ما تفهمت الناس وجاء الشيخ صالح بوك بنيص والشاخ (الشيخ) العلامة حسين درامة ونوروا الناس وعلموهم أمور دينهم ومنها صلاة الكسوف والخسوف.. وحما (عندما) يقع خسوف يصلي بنا الشيخ صالح ركعتين ويقرأ سورة طويلة في كل ركعة مثل سورة البقرة أو آل عمران ويستغفر ونستغفر معه إلى أن يفرج الله على امشهر وينتهي الخسوف. كنت أعلم أن عمي سليمان لن يقتنع بكلامي إذا قلت له إن الخسوف ظاهرة فلكية تحدث عندما يقع القمر تحت ظل الشمس وان إحراق الله للقمر لا أساس له في الدين وان صلاة الخسوف هدفها أن يمعن الناس الفكر في هذه الظاهرة العظيمة التي تدل على قدرة الخالق العظيم ولكني لم أشأ أن أدخل في سجال معه حول هذا الموضوع وذلك لصعوبة إقناعه بذلك وكان ما يهمني أن أتعرف على عادات الناس خلال فترة الخسوف والكسوف.والشمس والقمر لا يخسفان ولا يكسفان لموت لشخص او لذنوب احد.
سرى الليل
مسترسلا بالحديث :" أما وقد حبانا الله بمثل هذا القائد المجرب فقد كنا نسير وراءه براحة بال. نتحدث ونضحك ونصمت، ويقع بعضنا على الأرض بسبب الحفر وحجارة الأودية المنتشرة في هذه الطرق. وكان الحطاب أحمد مسعود برطم يلفت أنظاري دائماً ويطلب مني أن أمسك بذيل الجمل وأسير خلفه حتى لا أضل الطريق في ذلك الظلام الدامس فلا يعثرون لي على أثر.. أو لا يكتشفون غيابي إلا بعد فوات الأوان. كان علينا أن نحث الخطى ونقطع الطريق أو معظمه قبل طلوع الشمس.. وأن نبلغ المحنابة ومن ثم العماد. وقد سألتهم لماذا لا نسير بمحاذاة البحر.. أي ساحل أبين.. فالطريق هناك حتماً ستكون أريح من طريقنا هذه.. لكنهم قالوا لي إن هذه الطريق أقرب وأسرع لأنها طريق مختصرة. وأعاد إلي ذكر ساحل أبين ذكرى الأغنية الشعبية التي سمعتها مراراً قبل هذه الرحلة والتي تقول: "سرى الليل وا نائم على البحر ماشي فائدة في منام الليل حل السرية" "أنا بو محمد ما أنطرفشي لحد ملاّ المقادير جابتني لبوكم هدية" وكان علينا أن نسري ليلاً كما تقول الأغنية. جال في خاطري كيف كانت السيارات تتوقف أحياناً عند الساحل وكذلك قوافل الجمال عندما يكون البحر هائجاً والمد عالياً فينام الركاب والسائقون والقوافل حتى يبدأ الجزر فيستيقظون جميعاً ويبدؤون الرحيل على العربات أو الجمال، فطريق الساحل هو الطريق الوحيد بين عدن والعلم ومطلع الكود.. وكنت أتمنى أن نمر في هذه الطريق ولو طال السفر بدلاً من السير في الظلام بلا توقف في رحلة طويلة ومضنية.. فوق أو خلف هذه الجمال. العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد
ويردف قائلاً :" لقد أمضينا الليل بأكمله ونحن سائرون وعندما بدأت أشعة الشمس الأولى في الظهور رأى بعضنا بعضاً.. وكان الطريق لا يزال أمامنا طويلاً حتى نصل محطتنا قبل الأخيرة "العماد" التي تسكنها قبائل المصعبين.. وهي قرية تقع على امتداد أطراف دلتا تبن أو في نهايته وبالقرب من دار سعد و"الشيخ عثمان". وسألت رفاق الرحلة عندما وصلنا إليها: ألهذه القرية علاقة بإرم ذات العماد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم؟! ولكن الوصف الذي جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى: "إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد" صدق الله العظيم، لا ينطبق على هذه القرية اليوم. فهي تقع على أرض صحراوية رملية فوق أكمة صغيرة يسكنها مواطنون فقراء بائسون.. ولكن الكاتب المؤرخ حمزة علي لقمان يتحدث عن العماد في كتابه "أساطير يمنية" وأنها كانت مدينة مزدهرة وجميلة، وأن بيوتها من الرخام وأن الأنهار والمياه كانت تجري من تحت قصورها، وأنها جنات عدن التي ورد ذكرها في كتاب الله، وأنه يجب ألا نحكم على العماد اليوم لأنه لم يجر تنقيب عن آثار تلك الحضارة التي سادت ثم بادت كغيرها من حضارات الأمم القديمة. وقد قامت هذه الحضارة على أطراف دلتا تبن، والمنطقة وما حولها كانت غنية بالزراعة والمياه والغابات. وترتع في ربوعها الغزلان والأرانب والحيوانات البرية. وقد قضى التصحر على ما بقي من هذه الحضارة التي اندثرت عبر التاريخ.. أما سكان القرى الذين نزلنا عندهم وحولهم فإنهم يفتخرون بأنهم من العماد التي ذكرت في القرآن. وكنت وأنا أتأمل هذه القرية الصغيرة وسكانها الحفاة شبه العراة لا أكاد أصدق بأنهم أحفاد أولئك الذين شيدوا تلك الحضارة العظيمة التي أشار إليها حمزة لقمان". ولكن عندما أمعنت النظر جيداً إلى ملامحهم ورأيت كرمهم وسمو أخلاقهم بدأت أميل للتصديق بأنهم فعلاً يرتبطون بذلك التاريخ، فعدنوأبين وحضرموت وشبوة ومأرب وبعض المناطق اليمنية الأخرى شهدت ميلاد ممالك وحضارات عظيمة ومجتمعات زراعية مستقرة لم تصل إليها اليمن في تاريخها الحديث. وكنت أقول لنفسي إنه لو جرى تنقيب عن الآثار في منطقة العماد وغيرها لاكتشفنا أننا ننتمي إلى حضارات عريقة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، فأين نحن من ذلك التاريخ؟
ويتابع :" كما تحدث المؤرخ حمزة لقمان عن عدن بين البحار والجزر وعن ساحل صيرة وسواحل الشيخ أحمد، وعن المكانة التي تحتلها عدن عبر التاريخ في التجارة وعلاقتها مع الموانئ الاخرى في العالم وعن ميناء عدن في صيرة والمعلا والتواهي. ومن كتب الحكايات يشير المؤلف إلى أول الأساطير، وهي أن (قابيل) بعد أن قتل أخاه (هابيل) هرب إلى عدن مع أخته (أقليمة) خوفا من غضب أبيهما (آدم)، وبعد دفن جثة هابيل فوق جبل في عدن كان يعرف باسم جبل التعكر، يعرف الآن باسم جبل حديد، ظهر لهما إبليس وأغراهما على النار وبنى لهما معبدا فوق جبل صيرة. ( للحديث بقية ) ..