تسير العلاقات بين النظام الإيراني والدول الأوروبية الى منحدر خطير وتتجه إلى مزيد من التصعيد خلال المرحلة الحالية على خلفية إقدام الأخيرة على تفعيل آلية فض النزاع الخاصة بالإتفاق النووي في 14 يناير الجاري. ويرى العديد من الخبراء والمحللين السياسيين إن الدوافع الأساسية التي يمكن أن تفسر أسباب اتخاذ الدول الأوروبية لهذه الخطوة لا تنحصر فقط على معاقبة النظام الإيراني جراء تملصه عن تنفيذ بنود الإتفاق النووي وإنما يمتد أيضاً إلى إدراك الدول الإوروبية أنه لا يمكن الفصل بين الإتفاق والملفات الإقليمية الأخرى التي تنخرط فيها إيران وتحظى باهتمام خاص من جانبها، وهو ما يوحي بأن الأزمة الحالية لن تقتصر على طرفيها الأساسيين وهما إيرانوالولاياتالمتحدة الأميركية وإنما ستضم أيضاً باقي دول العالم لتتحول إلى أزمة إيرانية-دولية خلال المرحلة القادمة. يمكن تناول أبرز الدوافع التي تفسر أسباب التوتر بين إيران والدول الأوروبية خلال المرحلة الماضية بالآتي. اولاً إصرار نظام إيران على تخفيض مستوى الإلتزام بالإتفاق النووي، حيث لم تعد إيران ملتزمة بالبنود الرئيسية في هذا الاتفاق وتنصلت عن تنفيذ بنوده خاصة فيما يتعلق بزيادة كمية اليورانيوم المخصب ورفع مستواه، فضلاً عن استخدام عدد أكبر من أجهزة الطرد المركزي ورفع القيود المفروضة على عمليات البحث والتطوير، وهذه الإجراءات المتتالية تُفرِغ الإتفاق من مضمونه لأنها تعرقل تحقيق الهدف الأساسي منه بدعوى أن القوى الدولية التي شاركت في الوصول إليه بحسب ما يتحدث النظام الإيراني كانت تسعى عبره إلى وضع قيود على النشاط النووي وإبقاءه قيد المراقبة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمنع إيران من الوصول إلى المرحلة التي يمكن فيها إنتاج القنبلة النووية. النظام الإيراني يفسر إقدامه على اتخاذ هذه الإجراءات وكان آخرها في 5 يناير الجاري عندما رفعت مجمل القيود "العملية" المفروضة على أنشطته النووية بأنه يمثل رداً على انسحاب الولاياتالمتحدة الأميركية من الإتفاق وفرضها عقوبات عليه، بالتوازي مع عزوف الدول الأوروبية عن رفع مستوى التعاملات المالية والتجارية معه، فإن ذلك لم يدفع الدول الأخيرة إلى التراجع عن اتهام النظام الإيراني بأنه هو المتسبب في انهيار الإتفاق وسيكون هو المسؤول عن العواقب التي سوف تسفر عن ذلك، والدول الأوروبية بمساندة المجتمع الدولي تتجه نحو تفعيل آلية فض النزاع التي تصل مدتها إلى 65 يوماً في حالة لم ينصاع النظام الإيراني وينفذ شروط الإتفاق وقد ينتهي ذلك بإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران من داخل مجلس الأمن. ثانياً : كانت الدول الأوروبية تتبنى في البداية سياسة تقوم على الفصل بين الإتفاق النووي والملفات الإقليمية الأخرى واعتبرت أن التطرق إلى تلك الملفات يمكن أن يؤثر على استمرار العمل بالإتفاق ويبدو أنها شاركت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الرؤية الخاصة بالتداعيات التي يمكن أن يفرضها الإتفاق على التوازنات الداخلية في إيران التي كانت ترجح تغير تلك التوازنات لصالح تيار المعتدلين بشكل سوف يؤثر إيجاباً وفقاً لها على سياسات إيران في الخارج، لكن التطورات التي أعقبت الوصول للإتفاق النووي في منتصف عام 2015م أثبتت أن هذه الرؤية لم تكن تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي كانت تشير إلى أن إيران استغلت الوصول للإتفاق من أجل تعزيز دورها الإقليمي بل إنها حاولت في هذه الفترة إنتزاع اعتراف غربي بهذا الدور لاسيما في العديد من الملفات الدولية التي تحظى بأهتمام خاص من جانبها، وبدأت الدول الأوروبية في إدراك حقيقة هذا الإلتفاف وأنه لا يمكن الفصل بين الإتفاق النووي والملفات الإقليمية بعد أن كرست سياسة نظام الملالي الإيراني الإرتباط فيما بينهما، حيث اعلنت الدول الإوروبية موقفها الرافض لسياسات هذا النظام وحرصت على ارسال إشارات إنذار قبل ان توجه اميركا صفعتها الموجعة على وجهه وتوجه ايضاً ضربة استباقية خاطفة ومحدودة أدت إلى مقتل قائد ما يسمى بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني إلى جانب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشيعي العراقي أبومهدي المهندس وبعض المرافقين الآخرين لهما في الثالث من شهر يناير الجاري، إذ قالت حينها المتحدثة باسم الحكومة الألمانية "أولريك ديمر" في اليوم نفسه أن تلك الضربة "مثلت رداً على الإستفزازات العسكرية التي يتحمل مسئوليتها بالكامل النظام الإيراني". ثالثاً : الدعوة إلى إبرام اتفاق جديد وقد تبنى ذلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي تحدث في ال 14 من يناير الحالي بالقول : "إذا كنا سنتخلص من هذا الاتفاق النووي فلنجد بديلاً له وليحل إتفاق ترمب محله فذلك سيقطع شوطاً كبيراً" مضيفاً : "علينا عدم السماح لهذا النظام المارق بامتلاك سلاح نووي"، عقب ذلك بدأ النظام الإيراني في شن حملة مضادة واعتبر أن أي انهيار محتمل سوف تتحمل عواقبه الدول الأوروبية، وزعم اقطاب الحكم في طهران بأن تلك الدول عليها أن تحدد مصير الإتفاق بالإجراءات التي سوف تتخذها في الفترة القادمة وأن تتحمل مسؤولية تفعيل آلية فض النزاع. رابعاً : اتخذ النظام الإيراني خطوات تصعيدية عديدة أثارت استياءً واضحاً من جانب الدول الأوروبية، إذ تبدو طهران مُصِّرَة على استخدام ملف مزدوجي الجنسبة في ممارسة ضغوط على تلك الدول، حيث ما زالت تلك القضية محور جدل بين طهران والعديد من دول العالم وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، وقد طالبت الأخيرة على سبيل المثال في 10 يناير الجاري السلطات الإيرانية بالإفراج عن فاريبا عادل خاه الخبيرة في الشئون الشيعية في مركز الأبحاث الدولية بكلية العلوم السياسية بباريس، ورولان مارشال المتخصص في شئون القرن الإفريقي في المركز نفسه اللذان اعتقلتهما في يونيو 2019م، وحينئذ اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان أن اعتقالهما يعد أمراً غير مقبول، ولا ينفصل ذلك أيضاً دون شك عن الخطوات التي اتخذها نظام إيران وهدد من خلالها مصالح بعض تلك الدول خاصة عندما قام باحتجاز الناقلة البريطانية "ستينا إمبيرو" في 19 يوليو 2019م رداً على قيام سلطات جبل طارق بالتعاون مع القوات البريطانية باحتجاز الناقلة الإيرانية "غريس 1" في 4 من الشهر نفسه على نحو فرض تداعيات مباشرة على العلاقات بين طهران ولندن حتى بعد أن تم الإفراج عن الناقلتين، وما سبق في مجمله يوحي بأن مرحلة جديدة من التوتر سوف تبدأ بين إيران والدول الأوروبية بعد أن كانت الأولى تُعوِّل في فترة ما بعد الوصول للاتفاق النووي على تلك العلاقات في تحسين روابطها الخارجية ودعم انخراطها بشكل أكبر في منظومة التفاعلات الدولية على المستويات الإقليمية والدولية المختلفة.