في مارس من العام 2015م بدأت أولى الضربات الجوية لعاصفة الحزم التي اطلقها التحالف العربي يومها في إستجابته لطلب الرئيس هادي معلنة عن تدخل عسكري حمل عنوانا واضحا تمثل بإعادة الشرعية ودحر الانقلاب . ..لم تمض بضعة اشهر على قيام عاصفة الحزم إلا وبدأت بشائر النصر والتحرر تتوالى من المناطق الجنوبية تباعا ؛يومئذ استبشر الجميع بقرب الاعلان عن تحقيق الانتصار الاكبر والقضاء على الانقلاب كلية. ..لكن ما الذي حدث فجأة بعدها ليغير معه مجرى الامور ويبدل المعطيات والوقائع بعد ان كانت جميعها تصب في مجرى الحسم الوشيك لتغدو خمس سنوات عجاف في نفق المجهول؟ بل كيف تحول نصرا كان في متناول اليد آنذاك الى معارك وجولات كر وفر لامنتهية لازالت تراوح مكانها حتى الساعة؟ قال نجيب محفوظ يوما : ( إنه ليس عجيبا ان يعبد المصريون القدماء فرعون،لكن العجيب ان فرعون آمن حقا انه إله) .. لست متأكدا ..! لكن اذا ما استثنينا فرضية حسابات الظل والنوايا المبيتة في تدخل الاشقاء باليمن فإنه سيبدو فعلا ساعتها ان خيلاء النصر المبكر في المناطق الجنوبية قد اوعزت بشكل او بآخر لقيادة التحالف المنتشية حينئذ تحولها من موقع الجار الحليف الى موقع المتعهد الحصري للازمة والبلد وربما ابعد من ذلك الى موقع إله الحل والفصل ..اذ لا تفسير يبدو منطقيا حتى الان في أضاعة التحالف لنصر اكدته كل مقومات الحسم حينها غير فرضية الزهو بالذات والاستناد كليا على الحق الحصري والغطاء الاممي القوي وبالتالي الذهاب الى اعادة ترتيب سلم أولويات عاصفة الحزم والدلوف في لعبة ادارة الصراع اليمني بدلا من حسمه مبكرا خاصة وان ادوات واطراف الصراع باتت جميعها محتواة بين حليف داخلي معلب وعدو ارهقته بضع غارات جوية فبات مقيدا وآيلا ..فما الحاجة اذن لأن تتسرع دول التحالف بحسمها للصراع ؟! أليس من الاحرى بها البحث عن اهداف ومصالح اخرى قد تبدو أكثر أهمية وتوازي قيمة فاتورة تدخلها العسكري المكلف قبل ان تهدي هذا البلد حلا ووضعا مستقرا على عجل .. عما قريب ستغادر الحرب في اليمن عامها الخامس بينما لايزال التحالف او ما تبقى منه يمارس دور الإله في محاولة تأكيده ان خيوط اللعبة لازالت بيده وان لا مسارات اخرى قد تسلكها الازمة بعيدا عن رغباته او رؤيته للحل كما يقول.. ..هي الرؤية والاستراتيجية الاشد تجردا عن معان الشراكة في ديدن الصراعات الملتوية حين لاتنصر حليفا ولاتهزم عدوا بل تظل رافدا وحافظا لواقع "لاغالب ولامغلوب". لكن بالمقابل ..سنجد ان فرعون مصر الذي زعم لعقود طويلة انه إله قومه وربهم الاعلى قد وقف يومها حائرا مرتبكا امام براهين موسى التي اسقطت دعوى ألوهيته فبات يتوعد ويتخبط في آن واحد مخافة ان تكشف حقيقته ويفقد كل شيء .. واليوم كذلك وبعد ان اذعنت اطراف الصراع في الجنوب الى دعوة المملكة للحوار وتمكن طرفا الدعوة بالفعل من التوقيع على اتفاق سياسي ترعاه وتضمنه السعودية الا ان تعثر تطبيق ذلك الاتفاق عمليا اعاد الى الاذهان زيف دعاوى فرعون في جدوى بسط سلطته وتأكيد سطوته؛ اذ بات من المستغرب اليوم حقا ان نشاهد الراعي الاوحد والمتعهد الاقليمي الابرز وهو عاجز كليا ربما في إنفاذه ولو بندا واحدا من بنود الاتفاق الذي يشمل حليفيه المحليين على الرغم من إنقضاء المدة الزمنية الخاصة بتنفيذ ذلك الاتفاق..فكيف اذن سيتمكن حينها من جلب خصومه الى طاولة الحل السياسي؟ نحن بالفعل امام عجز ماثل وفشل قادم قد يهز اركان الصورة الفاضلة التي رسمها السعوديون لانفسهم بداخل ملف الصراع اليمني .. في الواقع يبدو فعلا ان السعوديين يعيشون اليوم مأزقا حقيقيا اربك حسابات وتصورات كانت ملازمة لهم طيلة سنوات الحرب الماضية..فالتطورات الاخيرة شمالا قد خلقت بلا شك عبئا اخرا وخلفت فشلا جديدا يضاف الى كومة الاخفاقات التي رافقت عمل التحالف وإدارته لملف الازمة اليمنية،كما ان مزاعم معظم القيادات السياسية والعسكرية الشرعية باتت مؤخرا على المحك وربما مفضوحة الى حد كبير في حقيقة اخلاصها وولائها للتحالف وخصوصا بعد دراما غزوة نهم ودورة الاستلام والتسليم التي حدثت هناك مع الحوثيين العدو المشترك كما يفترض.. إذن يبدو بالفعل ان الارتدادات والانكسارات المتلاحقة قد شقت طريقها في جسد التحالف وربما اضحت تهدد بالفعل امكانية صموده اكثر امام كل هذه التقلبات والمستجدات من مساؤى الحسبة الخاطئة له. الامر الذي سيدفع ربما إلى ضرورة تدخل الكبار من حلفاء التحالف نفسه لوضع حد او بالاصح لإنقاذ حليفهم الأهم في المنطقة والاقليم.فالامريكان والبريطانيون كما يبدو لن يسمحوا ابدا بان تستهلك السعودية كلية في مستنقع الصراع اليمني ..ثمة ملفات وأدوار أهم يحتاج هولاء من السعودية لأن تلعبها مستقبلا بالمنطقة لذا وان تثاقلتا قليلا لكن محال ان تتخلى أيا من اميركا او بريطانيا عن السعودية وتركها وحيدة .. التصريحات الاخيرة للامين العام للامم المتحدة "غويتروس" والتي وصف خلالها الوضع في اليمن بالمحرج وانه بات ينازع في العناية المركزة سلطت الضؤ مجددا حول أداء التحالف وجدوى التفويض الاممي له بحل ازمة اليمن سيما بعد مرور اكثر من اربعة اعوام على ذلك التفويض دون اي تقدم او خرق حقيقي في هذا الملف.. اللافت هنا ان المشكلة لاتقف عند وصف غويتروس للوضع بالحرج بل حين تتعدى ذلك الى قوله ان السعودية باتت بصدد تقليص عملياتها العسكرية في اليمن، اذ كيف يلتقي هنا ان البلد المفوض امميا بدأ علنيا بتخفيض حضوره العسكري فجأة في حين ان السبب والوضع المفوض لأجله ازداد حرجا وسوء؟ فما سر هذا التناقض العجيب إذن؟ لكن وبقراءة سريعة لما بين سطور تلك التصريحات الاممية سنجد اننا بالفعل بتنا امام تدخل من نوع آخر يقابله إعلانا إمميا مبطنا بفشل السعودية وربما قرب نهاية دورها الحصري فيه على غرار مغادرة الحليف الاماراتي قبلها للمشهد هناك .. فهل اكتملت إرهاصات انسحابها الحتمي عن مشهد الصراع؟ خصوصا وان المملكة قد حققت بالفعل معظم مطالبها وبضمانات دولية حينما يتعلق الامر بأمن حدودها ووقف هجمات الحوثيين الصاروخية باتجاه اراضيها مقابل وقف عملياتها الجوية واعترافها بسلطة الانقلاب سياسيا .. لا شك ان حظوظ التدخل الخارجي لقوى دولية بعينها باتت أقرب اليوم من اي وقت مضى كضرورة ملحة جلبتها حالة التخبط والتعثر المتكرر في الاداء السعودي باليمن شمالا وجنوبا ..فهل سنشهد قريبا إقرارا سعوديا بعجزه عن الاستمرار وبالتالي إفساحه المجال كاملا امام شركائه الدوليين لوضع سيناريو الختام الخاص بهذه الازمة؟ ام ان النظام السعودي سليجأ الى المناورة والتعنت الفرعوني اكثر وبالتالي عودة شبح السيناريو السوري مجددا الى اليمن؟ لانعلم تحديدا ما هي النوايا السعودية بهذا الشأن؟وماهو مطروح حاليا على طاولة خياراتها للتعاطي مع المستجدات الاخيرة للازمة؟..عدا ان المؤكد هنا ان لا وقت ولا خيارات عديدة باتت تدعم تماسك الدور السعودي لاكثر من بضعة اشهر خاصة في ظل تعقيدات المشهد الراهن على الساحتين المحلية والإقليمية ...