العميد صموده يناقش مع مدير عام الأدلة الجنائية بوزارة الداخلية آليات سير العمل في إدارة الأدلة في محافظة المهرة    يوفنتوس مصمم على التعاقد مع ريكاردو كالافيوري    نادٍ إيطالي مغمور يحلم بالتعاقد مع مودريتش    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    الاتحاد الأوربي يعلن تطور عسكري جديد في البحر الأحمر: العمليات تزداد قوة    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    ريال مدريد يحتفل بلقب الدوري الإسباني بخماسية في مرمى ديبورتيفو ألافيس    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    هيو جيو كيم تتوج بلقب الفردي وكانغ تظفر بكأس الفرق في سلسلة فرق أرامكو للجولف    ولي العهد السعودي يصدر أمرا بتعيين "الشيهانة بنت صالح العزاز" في هذا المنصب بعد إعفائها من أمانة مجلس الوزراء    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    وصول شحنة وقود لكهرباء عدن.. وتقليص ساعات الانطفاء    11 مليون دولار تفجر الخلاف بين معين عبدالمك و مطيع دماج بالقاهرة    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    شاهد:الحوثيون يرقصون على أنقاض دمت: جريمةٌ لا تُغتفر    ليست السعودية ولا الإمارات.. عيدروس الزبيدي يدعو هذه الدولة للتدخل وإنقاذ عدن    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الولايات المتحدة: هناك أدلة كثيرة على أن إيران توفر أسلحة متقدمة للمليشيات الحوثية    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات من عدن !!
نشر في عدن الغد يوم 22 - 04 - 2020

عدن البريقة والغدير وكود النمر ورأس عمران.. عدن المصافي والعمال والنقابات.. عدن صيرة والصيادين، وأغاني البحر الشجية "هيلا.. هيلا هيلا.." .. عدن جبل شمسان، وجبل حديد، وجزيرة العمال.. عدن صهاريج الطويلة، وقلعة صيرة، ومنارة عدن، ومسجد أبان، وخرطوم الفيل، وساعة "بيج بن عدن" والمتحف العسكري، وجامع البينيان، وكنائس المسيحيين، وبقية معابد الأقليات..
عدن ليست قليلة، والعتب واللوم بل وأكثر منه على من جعلها قليلة، أو أستهان بها وجعلها غير ذي أهمية.. عدن ثاني ميناء عالمي في ترتيب الموانئ بعد نيويورك.. عدن أول بريد، وأول مصفاة، وأول مكتب صرافة، وأول إذاعة، وأول تلفزيون، وأول صحفية، وأول انتخابات تشرعية، وأول غرفة تجارية في المنطقة.. عدن أول قانون للنقابات العمالية في البلاد العربية، وثاني قانون متحرر للأسرة والأحوال الشخصية في الوطن العربي، يحمي حقوق المرأة والطفل..
عدن التي تمنى قابوس عمان، حالما كان يدرس فيها أن تكون مسقط مثلها، وتمنى أن يكون له مثلها زايد الإمارات، وصبّاح الكويت.. عدن التي كانت تبهر وتأسر المواطن الخليجي بنظامها ونظافتها وقوانينها ورقيها..
عدن السلام والقانون والنظام والتعايش.. عدن التي جمعت الاطياف والأجناس والأديان والطوائف.. عدن التي أجتمع فيها الهنود والأفارقة والزيود والزبود واليهود.. عدن التي سكن إليها وأقام في حناياها البهرة والفرس والبانيان والباكستانيين والصومال والايرانيين، وكل القادمين الباحثين عن أمل أو عمل أو حياة..
عدن التي قال عنها امين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" إنها تجمع المسلم والفارسي والبانيان والمسيحي والاسماعيلي واليهودي .. وأضاف: أن وكل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون.:
عدن البحر والسماء والنوارس.. الميناء والخلجان والشواطئ.. منتزه نشوان، ونادي البحارة، والعروسة، والنادي الدبلوماسي، والكمسري.. عدن الساحل الذهبي، وساحل الغدير، وساحل أبين، وساحل العشاق، والعشق المكلل بالأرجوان وشبيب النار..
عدن الحاضنة للبحر والسماء، والقادمين الباحثين عن الأمل والحب والحياة.. عدن المحبة، والرزق الحلال الآتي بالكد وعرق الجبين.. عدن الثغر الباسم و”الكفر الحلو*” والإيمان المسالم..
عدن مقهاية زكو، ومطعم الشيباني، ومرق الدبعي، وحلويات القباطي، وتجارة الأغبري ، واستيديو العبسي، وقات المقطري..
عدن الرز، والصانونة، والمطفاية، والصيادية، والزربيان، والسمك الباغة، والزينوب، والرطب، والرشوش والحُلبة الحامض، وخبز الطاوة، والمطبقيىة، والشاي العدني، والعصملِّي..
***
عدن التاريخ والثقافة:
عدن موطن مملكة أوسان القديمة.. والحاضرة في تاريخ سبأ وحمير، وفي أسفار العهد القديم، وفي كتابات ابن خلدون، وابن منظور، والهمداني، وابن بطوطة، وياقوت الحموي وأمين الريحاني.. عدن الحاضرة في كتب الطبقات، وأخبار الملوك، والسير والرحلات..
عدن التي كانت حاضنة للثقافة وفيها ما لا يقل عن "11" نادي ورابطة ومنظمة، تعمل بالثقافة والأدب والوعي.. عدن مكتبات مسواط وباذيب والإكليل.. مسرح التواهي، وسينما أروى وريجل وبلقيس.. عدن نادي التلال، ونادي شمسان، ونادي الميناء، ونادي الوحدة، ونادي الجيش الرياضي..
عدن أحمد سعيد جراده، وإدريس حنبلة، ومحمد الجابري، محمد عبده غانم، ولطفي جعفر أمان.. عدن أبو بكر السقاف، وعمر الجاوي، ومحمد عبدالولي، وسلطان ناجي، وحسين الحبيشي، وعبد الرحمن إبراهيم، وفريد بركات..
عدن الفن والفنانون أحمد قاسم، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد جمعة خان، ومحمد سعد عبدالله، وإسكندر ثابت، ومحمد عبده زيدي.. عدن أولياء الله الصالحين، العيدروس، والهاشمي، والشيخ عثمان، والشيخ عبدالله بن أحمد، وحسين الأهدل..
عدن عبدالله باذيب، وفيصل عبداللطيف، وكل الحالمين.. عدن التي لاذ بها الهاربون والملاحقون من ظلم سلطات الشمال.. عدن الأحرار الميامين الباحثين عن وطن عامر بالعدالة والحرية والكرامة والمواطنة..
عدن تلك التي كانت ولم نعد نجدها أو نراها اليوم حتى بالمجاهر..
***
حال عدن اليوم:
• من كان يتخيل أنه سيأتي يوم نشاهد فيه عدن بلا ميناء..!! وأن مرسى صيانه السفن يتم بيعه بسعر الكيلو للحديد الخردة.. من كان يتخيل أن يرى "مملاح عدن" يتعرض للسطو..!! ويرى عصابات ومافيات الأراضي تتعدي وتستولي على الأرضي العامة والخاصة، بل وأيضا على المنتجعات والشوارع والمعالم السياحية والتاريخية..؟!!
• من كان يتصور إن المتحف الحربي، وما يشمله من تاريخ عسكري مجيد، وما يحتوي أقسامه وجنباته من قطع أثرية وتاريخية عسكرية، يزيد عددها على الخمسة آلاف قطعة من تاريخ حافل، بات اليوم فارغا ومنهوبا، وزائد على هذا صار دكاكين وخوازيق وجحور ومسالخ دجاج، وأشياء أخرى..!!
• من كان يتخيل أن المتحف الوطني يُنهب، وتاج الملكة يباع في حراج عدن.. وبعض من الآثار التي كان يحفظها ويكتنزها هذا المتحف المنكوب، تباع في مزادات لندن وباريس و وشنطن..
• من كان يتخيل حتى في كوابيس النوم أن نشاهد في القنوات الفضائية خبر عاجل: "اشتباكات مسلحة بين أبناء "السيلة" و"المحاريق" في الشيخ عثمان بعدن"..
من كان يفكر بأن الانفلات الأمني في عدن يبلغ هذا الحد، ويصل إلى أشدّه لمدى سنوات طوال، وأن القتل اليومي لا يجد له من يزجره أو يردعه، ولم نر مجرما أو قاتلا واحدا يُقاد إلى عدالة أو قضاء..
• من كان يتخيل إن الأمّية التي تم القضاء عليها قضاء مبرما في ثمانينات القرن المنصرم، تعود في عهدنا المتأخر، بهذا القدر من التوحش والتجهم والغلظة في جيل حديث السن، على مشارف العقد الثالث من الألفية الثالثة..
• من كان يخطر على باله يوماً إن المرأة في عدن والتي نالت حقوقها كاملة قبل عقود، وتم مساواتها بالرجل وعلى نحو قل نظيره في بلاد العرب من الخليج إلى المحيط، أن تأتي مرحلة سوداء كثيفة الظلم والظلام تبتلعها هي وحقوقها على نحو يحز في النفس، ويدعو للحزن العميق..
• من كان يتوقع ان المرأة في عدن، والتي تجاوزت واقعها بخمسين عام أو أكثر نحو المستقبل الذي ترومه، أن تداهمها هذه الردة الحضارية الملتحية والمتخلفة، وتعيدها جريا وهرولة إلى ما قبل أكثر من ألف عام..
• اليوم عدن باتت مثقلة بالكراهية والعنصرية والمناطقية والقروية، وكل العصبيات المنتنة.. عدن باتت اليوم تعتبي بكل ما هو بشع وفج وقبيح يدمر ما بقي من وعي وعلاقات ومجتمع وثقافة وتعليم واقتصاد ومؤسسات.. وصارت الممكنات المُعطلة تعمل بنجاح وكفاءة لا تضاهى، ويجري هدم وتدمير كلما له علاقة بالدولة وأجهزتها، أو بالأحرى ما بقي منها أو ما بقي من ملامحها المتلاشية..
• استباح التوحش تعايشها وجمالها وطيبة أهلها.. وحولوها إلى "فود" وغنيمة.. وظل القادمين من خارج العصر ينهشونها ويمزقونها كالضباع.. قتل يومي، وخراب متسع، وشعب يعاني من جميع أطراف الحرب التي ارتكبت الكوارث والخطايا بحق وطن، وشعب لطالما أنهكوه ودمروه حتى صار لا يقوى حتى على الاحتجاج أو المناشدة..
عدن التي كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش لم تعد كذلك.. عدن اليوم مشوهة ومشلولة ومحتلة ونازفة.. عدن مثقلة بالمعاناة والحروب.. عدن اليوم ومثلها غيرها من مدن ومناطق اليمن باتت أشلاء ممزقة وبلا أمن ولا نزاهة ولا قانون ولا نظام ولا استقرار.. عدن منهكة لم تعد تقوى حتى على الأنين..
عدن لم تعد كما كانت ولا ندري متى ستعود.. وهذا لا يعني أن صنعاء أفضل حالا منها..
***
من المسؤول؟؟!:
• العيب ليس في عدن أو غيرها من مدن اليمن، ولكن في السلطات والنخب التي تداولت حكمها، أو التي حكمت اليمن مشطرا، ثم اليمن الموحد؛ ومن ضمنها الساسة المراهقون، والفاسدون، والعصبويون بمختلف مسمياتهم، من الماضي نسبيا إلى اليوم..
• لقد جرّفت تلك السلطات والنخب التي نحن بصددها، أو ساهمت كل منها بهذا القدر أو ذاك، بتجريف التراكم المعرفي والعملي لمدينة عدن، والذي تكّون خلال ما يقارب المائتين عام أو أكثر، وعلى كل الصعد تقريبا.. المجتمع والثقافة والسياسة، وكذا الإدارة والمؤسسات وبناء الدولة..
• المسؤولية على الساسة والنخب والسلطات التي كانت تحكم عدن ثم اليمن الواحد، وفشلت في حل خلافاتها بالطرق السلمية والمدنية، واستسهلت البدائل الكارثية، حيث غامرت وقامرت باليمن ومستقبله، عندما لجأت لاغتصاب السلطة من خلال الحروب، والغلبة، ودورات العنف، والإقصاء، والتهميش، لمن لا ينتمي لها، أو يختلف معها، أو يعارضها حتى وإن كان هذا المعارض بعض منها..
• المسؤولية على تلك السلطات والنخب والساسة الذين حكموا اليمن، وفرضوا ولاءاتهم المناطقية والجهوية والسياسية والعصبوية، وأمعنوا في أريفت عدن، بل وكل مدن اليمن في الإدارة والمؤسسات والاقتصاد والسياسية والثقافة..
• وقد كان يتم كل هذا على حساب الكفاءة والنزاهة والخبرة والمواطنة والديمقراطية والمدنية.. ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لصنعاء أيضا.. باتت عدن اليوم، ومثلها صنعاء، غنيمة حرب، وسلطة غلبة متحكمة ومدعومة من الخارج..
• باتت اليوم وعلى صعيد اليمن كله السلطات ونخبها الدميمة فيه مرتهنة لمصالح وأجندات غير وطنية، بل وتتضارب وتتصادم مصالحها وأجنداتها مع المصالح الوطنية، ومع اليمن الواحد القوي، والديمقراطي، والمستقر، بل وتنحاز لصالح التدخل والتخلف العميق كما هو حال صنعاء، وعلى نحو فيه تفريط صارخ، بوحدة اليمن، واليمن الحديث والتنموي، وسلامة أراضيه، واستقلاله وسيادته، ومستقبله، وازدهاره..
***
عدن التي أحببتها :
عدن ملاذي الأول، وحبي الأول كان في عدن، وزوجتي أم عيالي من عدن.. نصف حياتي الأجمل كان في عدن، ونصف حزني أيضا في عدن.. رفاة أخي، وإحدى بناتي، واختين لي في حنايا عدن.. عدن بضعة مني وأنا بضعة منها إلى يوم القيامة، إن كان للقيامة قيام.
• تشكَّل وعيي في عدن، وتعليمي الأهم كان في عدن، ورزقنا الأول جاء من عدن، وهجرتنا الأولى والثانية كانت إلى عدن.. ولي في عدن ملاذ ووطن، ولي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.
• أحب عدن التي كانت.. عدن الحب، والحنين الجارف، والذكريات التي تجوس في مغاور الوجدان، وتشتعل صبابة في دمي.. عدن الذكريات الندية والعصية التي تتحدّى النسيان، وتمنع عنها غفلة الزمان..
• ذكريات عدن تطل بوجهها البهي مشرقة، كلما تشابهت أيامي الخائبات التي أعيشها اليوم.. ذكريات عدن صارت بعض من كينونتي، وعروتها التي لا تنفصل.. حتى ذكرياتي الحزينة وأيامي الخالية فيها، صارت بطعم النبيذ المعتق، الذي ينسيني بعض مما أعيشه اليوم من غم وهم وقيود، مرغما ومُكرها..
عدن التي كنت أتجشم وعثاء السفر لأصل إليها، مغالبا القيض والغبار والريح والشمس التي تلفح الوجوه.. أتنفس البنزين المحترق، وبسببه والدوار الشديد، أكاد أتقيأ معدتي ودواخلي.. أغالب ضعف البدن، وأشعر بتهتك أوصالي المبعثرة.. إرهاق يهرس عظمي.. يتمدد في أطرافي المكرفسة .. أحس بمسامير ودبابيس تنغرز رؤوسها الحاده تحت إذني وصدغي وشدقي، وفكي أحيانا عندما أفتحه لأقذف ماء فمي، يعلق.. وأستمر للحظات فاغر الفاه..
• افعل كل ما أمكن، وأنا أتصبب عرقا، ليؤجل القيء قليلا من موعده أو يمدده.. حتى حبوب منع القيء التي استخدمها في بعض السفرات قبل ركوب السيارة، لا تمنع عنّي القي، وأجد مفعولها يأتي بنتائج عكسية، بل وتجلب القيء الشديد، بدلا من طرده، وهو ما أثار استغرابي وحيرتي.. كنت أسأل نفسي: لماذا العلم لم يكتشف حتى الآن ما هو أحسن من هذا العلاج الفاقد للمفعول؟! كل هذا وغيره كان يحدث، ولا يمنعني مانعا عن عدن التي أشتاق لها وألتاع.. أغالب المسافات الطوال، وأكابد العناء الأشد، من أجل أن أصل برحال شوقي إلى معشوقتي عدن..
• كنت أعاني من مشقة السفر إلى عدن، ولكنني لا أتردد في الإقدام عليه رغم ما فيه من ضنك ومشقة.. كنت وأنا مسافر استعجل الوصول إليها، ولطالما تمنيت أن يكون معي بساطا للريح يسابق شوقي الجارف، وينقلني إليها بسرعة وذهول.. ولطالما تمنيت براقا أو معراجا أو كرامة ولي، يملك جنون الدهشة، ويوصلني إليها بسرعة الريح التي أتمناها.. وإن اُستحيل هذا وذاك، تمنيت أن أملك الجن، وأصدر الأمر أن ينقُلني احدهم إليها بلمح البصر.. إنه الشوق الجارف والملتاع يا عدن..
• كانت عدن تأسرني أضواءها المتلألئة، كلما اقتربت منها، وأنا مسافرا إليها ليلا، عبر طور الباحة وخبت الرجاع والوهط.. كنت ما أن أصل إلى مشارف الوهط حتى أفيق وألملم أشتاتي، وأنفض عنّي ما نالني من وعث وإرهاق وقيء.. كان الفرح يملئني، وتتفتح أسارير وجهي المنقبض، وتنتعش وتنشط حواسي كلها، بمجرد أن أصل إلى الطريق الاسفلتية في تقاطع خط الوهط الترابي مع خط عدن لحج الأسفلتي.. كنت اتفرس الناس والسيارات والعمران والحياة على طول خط السير، وفي محاذاته وجنباته حتى أصل إلى قلب عدن الأغن.. كنت في كل مرة أسافر إليها، أبدوا فيها وكأنني أكتشفها لأول مرة، وكنت في كل وصول إليها، أشعر وكأن وصولي هذا هو الوصول الأول..
• عندما كنت أغادر عدن نحو قريتي النائية البعيدة، القابعة خلف حدود الشطرين، أتأمل وأمعن النظر في تفاصيل عدن، وأسأل نفسي بتكرار حزين وحسرة: يا ترى هل سأرى مرة أخرى، ما أراه الآن؟! هل سيطول بي العمر، وأرى عدن مرة ثانية..؟! هل سأعود إليها أم هي المرة الأخيرة التي أرى فيها عدن؟! إنني اشتاق إليها قبل أن أغادرها، وأشتاق إليها حال مغادرتها والرحيل.. أخاف أن لا أرى عدن مرة أخرى؛ لاحتمالات مفجعة تجوس في دهاليز وعيي وردهات مخاوفي..
عدن التي كانت تثير شجوني وأنا بعيد عنها.. ولطالما أشجاني وأنا بعيد عنها صوت الفنان وهو يغني:" عدن عدن ياريت عدن مسير يوم.. شاسير به ليلة ماشرقد النوم.." وكذا أغنية "يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن.. عالهجر مقدرش أنا.. أشوف يومي سنة.. ذي جنة الدنيا حواها..".
عدن التي أحببتها هي تلك التي وصفها صديقي محمد اللوزي في إحدى كتابته بقوله "عدن درة المدن، ونجمتنا التي تبزغ فينا ولا تأفل.. زنبقة الفرح، والطلع النضيد.. الدعة التي تجيء إليك راضية، وتقدم نفسها حبا، وتغار من أن أحدا يأخذك خارج مدارها.. عدن رائعة الكون.. عدن الدهشة كلها.. لا يعرف عدن غير العاشق الصب لأنها تسكب روحها فيه.."
• أحببت عدن التي قصدها الشاعر الفرنسي "رامبو" باحثا عن الحرية والعمل، وآثرها على فرنسا، ورغم جحيم عدن وتذمره منها، وهجيه لها مرات عديدة في لحظات ضيقه، إلا أن المقام انتهى به إلى التكيف معها، بل والإقرار إنها "«أفضل مكان في العالم». وقد أوفت معه عدن بعد موته، وأسمت إحدى شواطئها الجميلة باسمه، وحولت منزله في عدن إلى مركز للقاء والتبادل الابداعي الشعري.
عدن التي أحببتها هي تلك التي فضلها الشاعر السوداني مبارك حسن الخليفة على "دبي" الإمارات.. الشاعر والدكتور الذي لم يطب له المقام في موطن الثلج، وطابت له عدن اليمن 34 عاما، عمل فيها محاضراً وأديبا وشاعرا وناقدا في جامعاتها.. سكنها وسكنته، وألّف فيها الكتب، ودبج عنها وفيها وفي البعد القصائد، وكان صوتها الأغن بعناوينها النابضة بالجمال والهوى والحنين: «عدن هواها قد تملك مهجتي» و«البعد يا عدن» و« إلى حبيبتي عدن» و«عدن الجميلة».
• أحببت عدن التي جاءها جورج حبش خائفا عليها حد الفجيعة، من قادم ينتظرها، بتحفز شيطان، باكيا عليها بدموع سخينة، محاولا إنقاذها من كارثة حلت عليها لاحقا، في 13 يناير 1986 وكانت دامية ومؤسفة، ولازلنا نعيش آثارها الدميمة إلى اليوم الذي خلناه بعيدا جدا، لن يطول ولن يُطاول.. حلت على عدن الكارثة، كما حلت عليها على ما يبدو اللعنة، والتي لازالت ترفض التلاشي أو المغادرة إلى اليوم..
• أحببت عدن الوفاء التي لاذ بها وإليها أحرار العرب والعالم، ومنهم البروفسور العراقي توفيق رشدي في أواسط سبعينات القرن المنصرم، والذي صار أستاذا يدرّس طلابها في إحدى جامعتها، وعند اغتياله فعلت عدن من أجله ما لم تفعله الدول.. رفضت كل المساومات والمغريات والدعم السخي، مقابل الصمت والسكوت عن مقتله، بل وحاكمت القتلة علانية، وبُثت المحاكمة من قاعة المحكمة، وكشفت كل شيء أمام الرأي العام كله، في فضيحة سياسية غير مسبوقة.. جريمة بحجم فضيحة بكل المقاييس، للقتلة والدولة التي تقف وراءهم..
عدن التي أحببتها هي تلك التي أنتمي إليها.. عدن الإنسان والأهل والأحباب والناس الطيبين.. عدن التعايش والأمل والعمل والملاذ.. عدن الحب والشوق والعشق والحياة والذكريات..
.....................
من تفاصيل حياتي..
يتبع..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.