من رحمة الله بعباده أن أفاض عليهم من مواسم الطاعات ومن نفحات الخيرات ومن كنوز الأعطيات .. ففضل بعض الأمكنة والأزمنة على بعض وجعل الأجر فيها مضاعفا والكسب مباركاً والعطاء وافراٌ.. فكانت بمثابة محطات وقود يتزود منها المسلم إلى عالم الآخرة , ونقطة وقوف يراجع فيها سير حياته إلى ربه سبحانه . وتلك من رحمة الله تعالى بعباده . ذلك أن المسلم في سيره إلى ربه يعتريه النقص وتعصف به عواصف الشهوات ويغرق في بحور المعاصي ويشرد بعيدا عن حمى ربه سبحانه . فكانت تلك الوقفات أشبه ما تكون بجهاز فلترة للتخلية والتحلية يعمل على تنقية القلب وتطهير النفس وتهذيب الروح وإزالة الشؤائب وصقل الجوارح والتهيئة لمواصلة السير بروح جديدة وقلب سليم ونفس متوثبة . ونحن في هذه الأيام يهل علينا موسم من هذه المواسم ومحطة من تلك المحطات ونفحة من نفحات الخير الربانية أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) .رواه البخاري هكذا فضل الله زمن هذه الأيام لأنها تؤدى فيها أعظم فريضة وهي حج بيت الله والوقوف بعرفة وفيها يوم النحر. فتكرما منه سبحانه أراد أن يعمم هذا الخير على المسلمين عامة _حجاج وغير حجاح _ فتكون هذه الأيام بمثابة السناء الذي يشع نوره ليضيء دروب السائرين إلى الله سبحانه وتعالى وليضفي على حياة المسلم حالة من الصفاء والنقاء والطهر والنماء.. يشف فيه الروح وتسمو فيه النفس ويرق فيه القلب ويخشع فيه الفؤاد وتدمع فيه العين وتتهذهب فيه الجوارح وتصقل فيه الأخلاق ويحلق فيه المؤمن بعيدا بعيدا في أجواء الإيمان الرحبة ويتجول بين واحاته الغناء وجناته الرائعة الجميلة... فيتخذ من تلك المحطة قفزة نوعية تنتشله من عالم الكسل إلى دروب النشاط ومن حياة الخمول إلى حياة الجد والعمل ومن دنيا التقصير في حق الله وحق العباد إلى حالة التشمير ومن حياة اللهو واللعب إلى حياة الاجتهاد . ويجعل منه سلما يرقى به إلى الملكوت الاعلى. فما أجزل عطائك ربي وما أوسع فضلك خالقي وما أكرم جودك إلهي . فهل من مشمر ؟ عشرة أيام ستمضي سريعا والموفق من وفق للاستفادة منها..لتحدث نقلة جديدة في حياته تقربه إلى ربه وتسعده في الدنيا والاخرة . فهيأ لنجعل منها بداية جديدة لتصحيح علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى وترميم علاقاتنا مع بعضنا البعض ونعزم فيها على التخلص من حياة الكسل واللهو واللعب . ونمد فيها أيدي الضراعة إلى المولى سبحانه لينظر إلينا بعين رحمته لإصلاح أحوالنا وتبديل أوضاعنا ولشفاء أسقامنا .