يمتاز المثقف عن السياسي في مضمار التعاطي مع القضايا العامة ( القضايا المتصلة بالدولة والمجتمع ) أن السياسي قد يُغلِّب حالةً من الديماغوجيا أو البراجماتيا في اتخاذ هذا الموقف أو ابداء ذلك الرأي تجاه هذه القضية أو تلك المسألة ، أما المثقف فالمتوقع منه أو المفترض فيه أن يكون أكثر احتكاماً الى صوت العقل والضمير في مواقفه وآرائه ، لأنه أكثر التصاقاً بالغالب الأعظم من الجماهير من جهة ، ومن جهة أخرى يكون أكثر قلقاً وحذراً تجاه أحكام التاريخ والأجيال بهذا الصدد . تأسيساّ على هذا المفهوم ، ومنذ أن برزت ظاهرة التطبيع مع الكيان الصهيوني الى سطح القضايا الجاذبة للاهتمام العام في الديوان العربي والشارع العربي على السواء ، كان المهرولون في هذا الدرب من الساسة يتزايدون ، فيما المتهافتون من المثقفين يتناقصون . واذا راح شيطان التطبيع يُخرج لسانه للتاريخ وللأجيال في ميادين عدة أبرزها السياسة والاقتصاد ، فان ميدان الثقافة ظل يغصّ بالأشواك على طول الخط . ومؤخراً ، أبرمت دويلة الامارات اتفاقاً مع دويلة اسرائيل لاقامة حالة تطبيع متكاملة في شتى الميادين . هذه الخطوة المستفزة لمشاعر ومقدسات العرب أثارت سخطاً واسعاً في أوساط المثقفين العرب الذين لم يكتفِ عدد منهم بالتنديد بهذه الخطوة الوقحة ، بل أعلنوا مقاطعتهم لجملةٍ من الفعاليات والملتقيات والمهرجانات والجوائز التي تعقدها وتستضيفها وتصرف عليها أبوظبي . هذه المشاعر والمواقف التي صدرت عن عدد غير قليل من المثقفين العرب ليست جديدة ولا شاذة ، بل سبق حدوثها وتكرارها في حالات عدة سبقت وشابهت الحالة الظبيانية . فلما زار الرئيس السادات دار الكيان الصهيوني صدرت مواقف ساخطة من المثقفين المصريين أنفسهم قبل أشقائهم العرب ، وأتخذت اتحادات ومنظمات ونقابات الأدباء والصحافيين والفنانين وسائر المبدعين في القاهرة اجراءات حازمة ضد كل من يدعو الى التطبيع مع ذلك الكيان أو مع أيٍّ من مؤسساته وتكويناته ، أو يزور تلك الدويلة ، أو يشارك في أية فعالية مع مثقف أو سياسي أو ناشط اسرائيلي . ونذكر يومها طبيعة الموقف الذي أُتخذ ضد الكاتب المسرحي الكبير علي سالم ، وفي وقت لاحق ضد الفنان التشكيلي جورج البهجوري ، وضد سواهما من مثقفي ومبدعي مصر . وثمة حالات مشابهة حدثت مع الشاعر الكبير أدونيس الذي تورَّط بالمشاركة في فعاليات وملتقيات خارج الوطن العربي ، متزاملاً مع مثقفين اسرائيليين ، عدا أنه راح في غير مناسبة يدعو الى اقامة علاقات ثقافية أو الى عقد حوار ثقافي مع مؤسسات صهيونية ، في بادرة تطبيعية استفزازية أسفرت عن شطبه من قوام اتحاد الأدباء العرب . والأمر ذاته حدث مع الشاعر الكبير سعيد عقل على اثر تأييده الشائن للغزو العسكري الاسرائيلي لبلاده في 1982م واقترافه جرائم ابادة في صبرا وشاتيللا لن تنساها الذاكرة الانسانية أبد الدهر ! أكدت هذه المواقف وتلك المشاعر على جملة من الحقائق الساطعة في مجرى الصراع الشامل مع هذا الكيان المجرم ، وبضمنها الصراع الثقافي والهوية ، لعل أبرزها ما يشير الى حقيقة أن يسعى سياسي عربي الى التطبيع مع اسرائيل ، أو يسعى تاجر عربي ، أو تسعى راقصة عربية ، فهذا أمر وارد ، وقد صار من نوافل الواقع العربي اليوم واعتيادات المشهد فيه ، وربما لم يعد يثير زوبعة الاَّ اذا كانت زوبعة في فنجان . أما أن يسعى مثقف عربي أو تكوين ثقافي عربي الى ذلك فهذا أمر آخر ، قد تختلف مسمياته ولكنها كلها ستصب في صفة واحدة : دعارة ثقافية !