هل كان الجنوب خاليا من مقومات النجاح السياسية والاقتصادية والتنموية ..؟ بالطبع لا ، فالجنوب كان يمتلك الكثير من الخبرات والكفاءات والقدرات العقلية والعملية ولكن الدكتاتورية السلطوية وسياسة القمع ومصادرة الحقوق والحريات جعلت الجنوب بيئة طاردة لتلك العقول والإمكانيات والتي وإن كانت حظيت بدعم السلطة الحاكمة وتمكنت من إبداء رأيها وطرح رؤاها وأفكارها في الحياة السياسة والشأن العام لما كان الجنوب أستل من تحت اقدام أدعياء التحرر واغبياء التقدم . ولذلك فقوة وركيزة أي شعب تكمن في عقلية نخبه ومفكروه ومبدعوه ولكن الذي حدث في الجنوب يكاد يكون مختلفا عن ماحدث في أقطار عربية اخرى انتهجت هي الأخرى النهج التحرري والعقيدة التقدمية وشعارات التصدي للقوى الامبريالية المناوئة لنهجها وممارستها السياسية ..غير ان الجنوب لم يكن يحوي في مخزونه السياسي الوليد وقتها ما نستطيع وسمه ب " مستوى الوعي والفهم السليم" لطبيعة التحول الذي جرى بعيد إعلان الاستقلال وقيام النظام السياسي وما عقبته من مراحل مختلفة في تاريخه . وفي "سفر إصحاحنا الخامس عشر" نسلط الضوء على محورين هامين ورئيسيين من محاور جزئية العلاقة مابين الفكر السياسي المنتهج في الجنوب وبين الممارسات التي أتخذت تجاه تلك المقومات والمقدرات والمتمثلة في الطبقة المتعلمة والعقول النيرة والتي كانت تستطيع ان توجد فارقا حقيقيا يصب في مصلحة الجنوب و الجنوبيين لولا أنها اصطدمت بحائط الجهل والتجهيل .. وبل لم يقف الأمر عند حد التصفية الجسدية ، بل جرت العادة حينها على قتل تلك العقول والخبرات معنويا قبل تصفيتها جسديا وذلك من خلال تهميشها وتسفيهها والتقليل من شأنها وتلفيق الاتهامات المجهزة لها بالعمالة والخيانة . ولعل مايفسر تناقض الشعارات الثورية مع حقيقة الواقع في الجنوب آنذاك هي الحقيقة ذاتها التي أدركها التقدميون العرب على السواء وباختلاف مشاربهم ومذاهبهم الفكرية وبعد مضي مئة عام على "الثورة البلشفية" في روسيا القيصرية وعلى تصدير النظرية الأعنف والأكثر تطرفا في التاريخ الحديث للتجارب السياسية الدولية ، ألا وهي "البلشفة الأستعمارية الغربية" في وجهها وحقيقتها الصادمة لأقطار عربية عديدة كان من أبرزها "اليمن الجنوبي" .. والتي اعتمدت على تبني الثورات التحررية بإدعاء تحرير الشعوب واحياء الروح الوطنية وكان لها ماكان وما ان تحررت تلك البلدان والشعوب حتى افصحت عن صريح اهدافها الخفية والمتمثلة في تدمير تلك الأوطان والقضاء على عقولها وقادتها الحقيقيون والذين كانوا يمثلون عماد نهضتها وتطورها . بيد ان الذي لا يقبله عقل ولايستوعبه فهم ان تتم إعادة انتاج هكذا نظريات سياسية عقيمة وبنفس الأدوات والمحركات والعقليات السياسية الطارئة على الساحة الجنوبية اليوم وإن تباينت أوجه الشبه بين الماضي والحاضر ودون أدنى محاولة لتغليب صوت العقل وإعمال لغة الوعي لتدارك ما يمكن تداركه قبل وقوعه .. وعلى مايبدو ان تلك العقليات الثورية المتحجرة ستظل ماضية في غيها القديم تهلل للرفيق لينين وتسبح بحمد القائد تورتسكي !