============ كانت فرحتي كبيرة و لا توصف يوم أُحِلت على التقاعد.لا أدرِ هل ينتاب هذا الشعور كل المتقاعدين.أما أنا فإني شعرت بأن هذا اليوم هو يوم إنعتاق من سجن كنت لا آمل الخروج منه. إلتحقت بأمن الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في يونيو 1979م و كان عمري حينها لا يتجاوز التاسعة عشرة و كنت قد أكملت الصف الثاني ثانوي في مدرسة 10 سبتمبر بالقلوعة_عدن.لم يكن عندي علم أو معرفة بطبيعة هذا العمل و لكن العوز و الفقر و التقلب في أعمال كثيرة منذ الصف الأول إعدادي جعلتني أقبل بهذا العمل و كان قد أغراني صديق لي يعمل في نفس الجهاز بأن حياتي ستتغير حيث سأحصل على راتب منتظم يقدر بألف شلن و إمكانية التطور و التأهيل و الحصول على سكن مضمونة. في أول يوم دخلت مبنى الجهاز أصابتني قشعريرة و رهبة و خوف لما لهذا الجهاز من هيبة و رعب إلتصقت بذاكرة الناس من خلال الإعتقالات و الإخفاء و التعذيب.أُقتدت الى مكتب يجلس فيه رجل مهيب أخذ يسألني عن إسمي و إنتمائي الطبقي و هل أنا مع الخط العام للثورة و بعد أن أستكمل أسئلته وافق على توظيفي و في اليوم التالي منحت بطاقة عسكرية و رقم عسكري و رتبة عسكرية( جندي ).و أنا أتفحص البطاقة دارت بي الدنيا.هل هذا كل ما أطمح به أن أكون جندياً.لقد رفضت في الإعدادية منحة طيار عسكري الى الإتحاد السوفيتي بعد حملة إستقطاب كبيرة لطلاب الإعدادية للعمل في القوات الجوية ثم هل كل هؤلاء الذين يلبسون ملابس مدنية عسكر؟؟ عدت للرجل الذي إستقبلني أول مرة و بارك لي على إستلام البطاقة و عرفني على طبيعة العمل و لحسن حظي أن العمل في قسم فني يسمى قسم التكنيك و هو قسم مختص بالتنصت على المكالمات و وضع أجهزة التنصت لمن يتم الإقرار بالتنصت عليه في سيارته أو بيته أو مكتبه أو جهاز تليفونه و لا علاقه له بالتحري أو الإعتقال أو التعذيب.كان المسؤول على هذا القسم اللواء علي منصور رشيد الذي أصبح لاحقاً نائبا لوزير أمن الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ثم نائبا لجهاز الأمن السياسي في دولة الوحدة و تحديدا بعد حرب 1994م و كان شخصية محترمة و مثقفة و واسعة الإطلاع و هو مهندس إتصالات درس في ألمانيا و كان أيضا عضو مجلس الشعب الأعلى في دولة الجنوب.قلت له لي شرط: أن أكمل دراستي الثانوية بإنتظام في مدرستي الثانوية و أن أعمل في الفترة المسائية.قال لي: لك ذلك. أكملت الثانوية العامة في سبتمبر 1980م و قرأت نتيجة نجاحي في صحيفة 14 أكتوبر و أنا في مقديشو في دورة حول محو الأمية نظمتها منظمة الثقافة و التربية و العلوم التابعة للجامعة العربية مبتعثا عن طريق إتحاد الشباب.أما عن عملي في المساء فكنت أُفرغ أشرطة الإستماع للمكالمات بين الشمال و الجنوب و بعض السفارات و لم يكن هناك شخص لا يمني و لا أحنبي مربوط هاتفه للتجسس عليه و يبد أن هيبة الأمن حينها كانت مرتبطة بحالة القمع الشديد التي تعرض لها المناوئون للنظام حتى أصبح الواحد يخاف من ظله و سأكون صادقاً إذا قلت أنه خلال عام من عملي في هذا القسم لم أعثر على مكالمة واحدة كانت تهدد أمن الدولة كما أن الناس ليسوا بأغبياء حتى يتحدثوا بما يشكل خطرا بالهواتف. كانت فترة عملي في أمن الدولة في نظان الجنوب من عام 79-80م هي فترة الصراع على السلطة بين علي عنتر وزير الدفاع و محسن الشرجبي رئيس جهاز أمن الدولة الذي أعمل فيه و كنت أسمع أن الخلاف يدور حول طلب الشرجبي إستحداث قوة عسكرية مسلحة بأسلحة ثقيلة لجهاز أمن الدولة و ربط الإستخبارات العسكرية في القوات المسلحة بجهاز أمن الدولة و هو ما أعترض عليه علي عنتر و أحتد الصراع حتى تقدم عبدالفتاح إسماعيل أمين عام الحزب الإشتراكي اليمني و رئيس مجلس الشعب بإستقالته و مغادرته عدن الى موسكو في إبريل 1980م و إزاحة الشرجبي من جهاز أمن الدولة ليعين سفيرا في المجر و تعرض كثير من مناصري عبدالفتاح إسماعيل الى المضايقات و إقالتهم من مناصبهم كعضو المكتب السياسي عبدالعزيز عبدالولي الذي قيل أنه مات مسموما في ألمانيا.في هذه الأثناء تحمل علي ناصر محمد الذي أصبح أمينا عاما للحزب الإشتراكي اليمن و رئيسا لمجلس الشعب الأعلى و رئيسا للوزراء، تحمل أيضا مسؤولية جهاز أمن الدولة الذي تحول الى وزارة أصبحت تسمى وزارة أمن الدولة و تعين مسؤول قسمي علي منصور رشيد نائبا لوزير أمن الدولة.الحقيقة أن هذه الأحداث أحزنتني و أقلقتني في آن و أنا من كنت يرى في عبدالفتاح اسماعيل رمزا وطنيا منافحا لقضية البسطاء أمثالي و قضية إزاحته أعادت الى ذاكرتي كل التصفيات التي رافقت مسيرة اليمن الديمقراطية من مقتل فيصل عبداللطيف الشعبي و الإقامة الجبرية لقحطان محمد الشعبي و كل الإغتيالات و التصفيات و الإخفاء لكثير من المناضلين في السبعينات وصولا الى مقتل سالمين و قررت أن أغادر هذا العمل و لكن كيف لي أن أغادره. كنت أحد قيادات الإتحاد الوطني العام لطلبة اليمن الذي تم دمجه في إتحاد الشباب الإشتراكي اليمني عام 1978م و بعد الدمح بقيت قيادياً في إتحاد الشباب كرئيس لدائرة الشبيبة المدرسية في سكرتارية الإتحاد في محافظة عدن.طلبت من رفاقي في الإتحاد أن يوجهوا طلبا لأمن الدولة لتفريغي للعمل في الإتحاد.أخذت الطلب و تقدمت به للأخ علي منصور رشيد نائب وزير أمن الدولة فوافق على الفور و تنفست الصعداء.تفرغت للعمل في الإتحاد و أصبحت عضوا في المجلس المركزي للطلاب اليمنيين زمن رئاسة الشهيد محمد ناجي سعيد الذي أختفى في أحداث 13 يناير 1986م و في عام 1981م غادرت للدراسة في الإتخاد السوفيتي. أعود للفرحة بالتقاعد عام 2002م، للتقاعد من عمل لم أقضِ فيه سوى عاما واحدا لكني ظللت مرتبطا به وظيفيا الأمر الذي إستحال علي الإنتقال الى عمل غيره و كنت أشعر بالحسرة لما ارى زملائي ممن درسوا في كلية العلاقات الدولية و القانون الدولي بجامعة كييف في أكرانيا و قد أصبحوا سفراء و تنقلوا في أكثر من سفارة في العالم.في هذا العام تحسنت كثيرا حالتي الصحية بعد أن تم تشخيص المرض و صرف لي علاج تحفظي يحسن الحالة لمدة ثلاثة أشهر و هو حقنة كنت أضطر للسفر الى موسكو او السعودية لحقنها.بدأت أطرق الأبواب للبحث عن عمل جديد.تقدمت للعمل في منظمات دولية و إقليمية و لم أتلق ردا من اي منها خاصة و هي كانت تشترط خبرة عملية و ماذا عساي أن أكتب من خبرة؟! تقدمت بطلب للعمل في جامعة عدن و كان الرد لو أنك على عملك السابق لكنا طلبنا إحالتك الى الجامعة و عملنا لك خفض و إضافة.الفرحة بالتقاعد تحولت الى هم يومي للبحث عن عمل.إتصل بي أحد الأصدقاء الحميمين و قال لي وجدت لك عمل.ستكون مديرا لقاعة أفراح.الحقيقة اني كنت بحاجة لأي عمل، يشغلني من الفراغ القاتل و يساعدني على سد إحتياجاتي التي أصبحت لا أقوى على تحملها.وافقت و حدد لي موعد مع مالك القاعة.قابلت صاحب القاعة.اول ما رايته عرفته.مان قياديا كبيرا في الحزب الإشتراكي اليمني و قائدا عسكريا كبيرا في في جيش دولة الجنوب السابقة.سلمت عليه و لم يقم من مكانه.قال التوظيف عندي يحتاج لحسن سيرة و سلوك من البحث الجنائي و شهادة إجادة اللغة الإنجليزية كتابة و نطقا و شهادة إيجادة إستخدام الكمبيوتر.قبل أن اودعه قلت له ان المغنية سهير ثابت التي ستغني في حفلات الأفراح تتكلم باللهجة العدنية و أنا أقدر أتفاهم معها بالعدني مش بالإنجليزي.خرجت الى الشارع و قد إسودت الدنيا في وجهي و أغلقت كل الأبواب و لم يكن هناك من باب سوى باب الله.لجأت إليه و تفرغت له و من يلحأ إليه لا يضيعه أبدا.