وقف ذلك الرجل العجوز على بعد مسافة بعيدة من القرية التي كان يقصدها بمجيئه من أعالي الجبال ، هذه القرية التي تضم سوقا واسعا ، يتوافد إليه القرويون من 45 قرية مجاورة . نظر في البعيد وهو يظلل بيمينه عينين شاخصتين أرهقها السفر _مشيا على الأقدام _ وبشماله يمسك فأسا عتيقا صدأت أطرافه ، كان ثمة غبار كثيف على بعد مسافة قريبة ، لمحه فاستبشر بقدوم سيارة أوصلته إلى غايته . أخذ يتلفت يمينا وشمالا كما لو أنها المرة الأولى التي يدخل بها هذا السوق. سألَ أحد الباعة ” وين يوزعوا الإغاثة؟” أجابه البائع ” هذي المرة مافي إغاثه بس يجيبوا بدلها بيس؛ روح استلم بيسك ” وأشار له نحو أسفل السوق . يا لسوء الحظ! كان عليه أن يسرع قليلا ، فأمامه مئات من القرويين يصطفون لذات الغاية،وقد ينتهي اليوم قبل أن يصل دوره . أخذ مكانه في نهاية الطابور وفي يده بطاقة منحتها المنظمة للقرويين ليحصلوا على إغاثتهم نهاية كل شهر . بعد ساعتين ، اقترب من بوابة المركز ، أمامه رُجلين فقط وخلفه الكثير ، تنحى قليلا عن الطابور وأخذ ينظر بغرابة للجهاز الذي على الطاولة . جاء دوره أخيرا ، وقف أمام الطاولة ، والموظف يتأمله بصمت . وجه أسمر لفحته الشمس أزمان طويلة ، عينان شاخصتان ، لحية بيضاء لبثها التراب، وعصبة رأس عتيقة ، وثياب شديدة الإتساخ علقت عليها أجزاء صغيرة من أعشاب تنبت في الوديان . “أهلا يا والد ، هات بطاقتك الشخصية وبطاقة المنظمة لو سمحت ” قالها الموظف بابتسامة صغيرة. مد إليه الرجل ببطاقتيه ، و وقعت عين الموظف على يده المليئة بالنتوء ، كأن حرب هذا البلد خُلقت بين كفيه وما تزال على ظهرها ، لا شيء ينقص صورة اليمن المدمى في جراح أطرافه ،حتى الدخان على أصابعه بدا ، ولست تدركه من سيجارة بالقرب بل يذكيه الخيال دخان حرب وخراب . نقل الموظف بيانات الرجل ولم يتبق غير البصمة، مرحلة أخيرة قبل استلام النقود. وضع الرجل إبهامة على صفيحة زجاجية مضاءة ، لم يتعرف الجهاز على بصمته رغم كل المحاولات ، وكذا عشر أصابع أخرى ، طمست هويته من أصابعه ، وساء هذا الأمر البقية من الناس الذين ينتظرون دورهم وقد تأخر هذا العجوز واحتج الجميع طالبين منه أن يتنحى جانبا . اغتم ذاك العجوز وتنحى عن الطابور ، بينما الموظف الآخر منحه قطعة صابون وماء كي يغسل أصابعه على أمل أن يجد الهوية التي محاها الكد في تلك الجبال . انتهى دوامهم بعد الظهيرة ، وغادر ذاك العجوز وفأسه معه . في الصباح عاد مرة أخرى ، وجرت المحاولات نفسها ، تمكن الجهاز أخيرا من التعرف على بصمته ، تبسم الموظف وابتهج العجوز ، ولكن سرعان ما تلاشت بسمته وهو يلمح رجلا حاملا كاميرا يوجهها صوبه ويلتقط الصور . أخذ النقود وهو يفكر بالأمور التي سيشتريها. عد نقوده ، كانت أثنا عشر ألف ريال فقط! اغتم وجهه، وشعر بالأسى . ذهب لأحد المتاجر محتارا فيما سيشتريه لعائلته الكبيرة . عند الظهيرة والسماء ملبدة بالغيوم ، حَمَلَ على كتفه نصف كيس “دقيق” اشتراه بتلك النقود ، ومضى نحو قريته ، تابع طريقه إلى أن نال منه التعب، وقف على حافته على أمل أن تمر سيارة بهذه الطريق ، فتحمله وكيسه إلى قريته. لم تمر غير سيارة وحيدة باتجاه معاكس لوجهته ، لمح على متنها ذلك الرجل الذي كان يحمل الكاميرا ويلتقط الصور أثناء استلام النقود . لم يفكر بما يعنيه رمز WFP وهو يلمحه في باب السيارة ، ولكنه يدرك أن من فيها يتبعون الجهة التي تأتي بالإغاثات، فهم يبتسمون على الدوام ، ولا يشبهون أهل هذه القُرى. يأَسَ انتظاره وأربكته الرعود ، فحمل كيسه على كتفه وتابع طريقه وهو يخشى المطر الذي كان قد بدأ في الهطول