تكتسي كرة القدم في البرازيل شعبية و أهمية خاصة عند الجماهير لدرجة أنه يتم تقديسها وتقديس نجومها ، حيث لا تعتبر كرة القدم في البرازيل مجرد لعبة مثلما هو حالها في بقية انحاء العالم بما في ذلك إنكلترا التي اخترعت لعبة كرة القدم ، بل يختصر البرازيليون حياتهم أنها في كرة القدم . أثبت التجارب على مر التاريخ تعلق البرازيليين بكرة القدم و ارتباطهم بها ارتباطاً وثيقا ، حيث منحوها إبداعات لم يمنحها لها شعب آخر و بادلتهم العشق فمنحتهم أغلى الانتصارات و الأمجاد ، و بفضلها أصبحوا أسياد العالم ، وأصبح علم البرازيل أشهر من نار علم . وإلى غاية العام 2007 وهو تاريخ آخر إنجاز حققه منتخب السامبا عندما نال بطولة كوبا أمريكا ، حيث ظلت الإنتصارات التي تسجلها الكرة البرازيلية خاصة على مستوى المنتخب الأول و حصوصاً في كأس العالم ظلت مرادفة للسعادة و الفرحة التي تغمر البرازيليين صغيرهم قبل كبيرهم ، لان الانتصارات التي يحققها السامبا تجعل البرازيليين يشعرون بأنها اللحظات الوحيدة التي ينسون مشاكلهم اليومية في ظل انتشار خطير وواسع لجميع مشاكل االمجتمع من فقر و جهل و أمراض و جريمة و غيرها من المشاكل التي عجزت الحكومة عن معالجتها أو حتى الحد من تفاقمها في ظل سيطرة مطلقة للشركات الأجنبية على خيرات البلد .
كما ظلت المستديرة هي المسلك الوحيد الذي بإمكان أي برازيلي أن يسلكه للخروج من الوضع المزري من واقع بلاده عن طريق استغلال مهاراته والاحتراف خارجياً ، كون جل نجوم البرازيل في الأساس كانوا فقراء.
و لشدة تعلق البرازيليين بالكرة قيل بأنها تعتبر الأفيون الذي يخدرهم و أدمنوا عليه لنسيان همومهم فكلما انتصرت البرازيل خرج عشاقها إلى الشوارع للاحتفال بعفوية دون اعتراض من الشرطة لأن الساسة يريدون ذلك.
استغلال سياسي برازيلي للعبة اليوم خرج البرازيليون إلى الشوارع لكن ليس بمناسبة الانتصارات التي حققها السامبا في كأس القارات التاسعة المقامة حالياً بالبرازيل ، بل احتجاجاً على المشاكل الاجتماعية الكثيرة التي تلاحقهم لكنهم اعترضوا هذه المرة بهراوات الشرطة البرازيلية ، فما الذي تغير بين عشية و ضحاها و جعل الكرة تتحول إلى مصدر للعنف و الفوضى ؟!
الحقيقة أن علاقة البرازيلي بالكرة لم تتغير و لا يزال حبل العشق بينهما موصولاً و متيناً ، فالذي تغير هو الاستغلال السياسي للكرة من قبل حكومة برازيليا ، ففي السابق كانت توظفها لربح الوقت أملا في غد أفضل أما اليوم فتوظفها لإجاعة البرازيليين أكثر ، ويمثل السبب هو إقدام البرازيل على تنظيم نهائيات كأس العالم العام القادم و بعدها بسنتين إستضافة الألعاب الاولمبية الصيفية في مدينة ريو دي جانيرو و هو استثناء لم تقدر عليه سوى الولاياتالمتحدةالأمريكية ، البلد الأغنى في العالم الذي نظم مونديال 1994 و اولمبياد 1996 و الفوارق الاقتصادية شاسعة بين البلدين .
طرد الفقراء لتحقيق مطلب اجتماعي فمونديال كأس العالم لوحده سيكلف 20 مليار دولار لإنجاز ما تحتاجه البطولة لمدة شهر فقط و هو مبلغ يعادل الدخل الوطني لجارتها الأوراغواي ،وهو مبلغ يكفي لتشييد عشرات المستشفيات و المدارس و الجامعات و دور الأيتام و العجزة لإيواء مئات الآلاف من المشردين الذين يفترشون الشوارع للمبيت ، بل و أكثر من ذلك فقد أقدمت الحكومة مستخدمة قوة القانون و قانون القوة معاً لطرد عشرات الآلاف من منازلهم القصديرية وهدمها في مدينة ريو لتجهيزها بما تحتاجه للمونديال و الاولمبياد و هو ما تطلب هدم عشرات الأحياء المتواجدة في المدينة منذ عشرات السنين بهدف تشييد طرق سريعة تربط الملاعب بالفنادق و المطارات مباشرة .
وبحسب متابعين فإن الحكومة أرادت استغلال الحدث الرياضي لتحقيق مطلب اجتماعي و ثقافي تنادي به الطبقة الراقية و هو مكافحة الأحياء القصديرية التي تشوه جمال ناطحات السحاب ، و إذا ما نظرنا إلى تجارب الدورات السابقة من المونديال فان البلدان المنظمة له تشهد إرتفاعا مذهلاً في الأسعار و غلاء فاحشاً في المعيشة لا يقدر عليه فقراء البرازيل .
الحياة بلا كرة ممكنة أما الكرة بلا حياة مستحيلة و لم تكن تصريحات الرئيسة البرازيلية ديلما روساف بأن تكاليف المونديال لا تتحملها الخزينة الحكومية و أنما شركات خاصة لم يكن سوى ذرا للرماد في عيون الجمهور البرازيلي لثنيه عن التظاهر ، فالجميع يعلم بان أموال تلك الشركات حصلت عليها على حساب شقاء و فقر البرازيليين الذين يعلمون بأن أرباح المونديال ستذهب إلى تلك الشركات الخاصة الأجنبية منها أو المحلية فضلا عن العاهرات اللواتي سينشطن تلبية لنزوات القادمين من شتى أنحاء العالم و الفيفا بالتأكيد ، بل أن دراسات اقتصادية نشرت أكدت بإن النسبة الأكبر من تكاليف المونديال و الأولمبياد دفعها الشعب بطرق غير مباشرة مختلفة .
و الحقيقة أن البرازيليين انخدعوا في بداية الأمر حيث كانوا يعتقدون بإن المونديال سيساهم في محاربة الفقر بل سيؤدي إلى إثراء جيوبهم و هو ما أكده روبرتو مورالاس عضو اللجنة الشعبية لتنظيم كأس العالم الذي اقر بأن المونديال فعلاً سيكون أكبر عملية تجارية و مالية لكن ليس للجميع بل فقط للشركات الرياضية الكبرى و من يدور في فلكها ، قبل أن يكتشف البرازيليون خيبة أملهم و يكتشفون الكذبة الكبرى ، فتذاكر النقل ارتفعت و الأسعار غلت و الدخل انخفض ، و اخطر من هذا أن البرازيل شيدت ملاعب لن تحتاجها بعد يوليو 2014 لأنها بنيت في مدن تفتقر لأندية على غرار العاصمة الفدرالية برازيليا و ناتال و غيرها .
فالفرق بين إنتصارات الكرة البرازيلية التي حققها زملاء بيلي و روماريو و ريفالدو و آخرون بالأمس هو أنها كانت تحصل مجاناً أما اليوم فان حدثت فهي بمقابل مرتفع جداً مقابل لن يعوضه رضى رئيس الفيفا السويسري سيب بلاتر عن نجاح البرازيل في تنظيم البطولة ، فالبرازيل ترشحت لتنظيم المونديال ليس لتسهيل تتويج السامبا بالبطولة ، لكونه قادراً على ذلك في أي بقعة من بقع العالم وحتى في قلب الأرجنتين ، و ليس لتحقيق فرص العمل فظروف العمل في بناء الملاعب و ما يتعلق بالمونديال زادت سوء ، و لكن الهدف الرئيسي هو خلق فرص استثمارية جديدة تدر أموال و أرباحا طائلة على شركات البناء و السياحة و المشروبات و الأغذية في بلد يضمن تواجد اكبر عدد ممكن من الجمهور خلال التظاهرة و قبلها .
و الواقع أن المتظاهرين البرازيليين أرادوا إيصال رسالة للرئيسة و لكل من يقف خلفها و يخشى على مصالحه المادية من مافيا الفيفا رسالة مفادها أن مفعول أفيون الكرة انتهى و أن الحياة بلا كرة ممكنة أما الكرة بلا حياة فذلك أمرا مستحيلاً .