حين شهدت انتخابات المغرب عام 2007 صعوداً قوياً للإسلاميين، تزامن مع توقعات بفوزهم بالانتخابات على الرغم أنهم لم يحققوا آمالهم كالتي حققوها سنة 2011 ، كتب الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري حينها دراسة مطولة بعنوان (الحكومة الملتحية.. دراسة نقدية مستقبلية) مؤكداً أن الحكومة الملتحية قادمة لامحالة في عدد من بلدان العالم الإسلامي غير أنها لن تكون إلا مجرد خطوة لحكومة أخرى تأتي بعدها تسمى الحكومة الإسلامية. الحكومة الملتحية كما يقول المدغري لن يكون لها من الإسلام إلا الاسم والشكل، أما الحكومة الثانية (الإسلامية) فستكون ثمرة مخاض عسير شامل على المستوى الثقافي والديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وتأتي بعد أن تمت تهيئة الأوضاع مسبقاً في مرحلة الحكم الملتحي. ولذلك يدافع المدغري بقوة عن حق الإسلاميين في السلطة على الرغم من أنه يرى أن الظروف الراهنة تعني أن الإسلاميين “سينغمسون في لعبة الديمقراطية التي تجعل من البرلمان مجلساً تشريعياً، يتعامل بالربا، ويستخلص الضرائب من المحرمات كالخمور وغيرها، وسوف يمارسون النفاق السياسي المكشوف… وسوف يجدون أنفسهم في ظروف لا تسمح لهم بتطبيق الإسلام على الوجه الصحيح… ولكن هذه الحكومة ستكون مقدمة لا أكثر لحكومة أخرى تأتي بعدها ولو بعد عقود من الزمن تسمى بحق (الحكومة الإسلامية)”. عبد الكبير العلوي المدغري حاول المدغري وهو ابن البيئة الدينية في المغرب وكان وزيراً للشؤون الإسلامية والأوقاف لمدة تسعة عشر عاماً في عهد الحسن الثاني، وأستاذاً للشريعة بجامعة القرويين بفاس أن يبعث في كتابه برسالة تهدئة وتطمين للرأي العام، محاولاً الرد على الانتقادات والتهم التي توجه نحو الإسلاميين في حال وصولهم للسلطة من أنهم سوف يزعزعون النظام السياسي والاقتصادي، ويجبرون الناس بالإكراه على الدين، وينقلبون على العملية الديمقراطية، ويلجؤون للعنف في التعامل مع خصومهم السياسيين والفكريين، ونحوها من الاتهامات، لكنه في المقابل ناقش بجرأة نقاطاً حساسة في الفكر السياسي الإسلامي، أبرزها قضية الجهاد، وتطبيق الشريعة والحدود، وغموض موقف الإسلاميين من الديمقراطية، وحد الردة، والحريات الاجتماعية، وحقوق الأقليات، والمواثيق الدولية، وغيرها من القضايا الجدلية الواردة في هذا الكتاب الذي يعيد نفسه إلى الواجهة في مرحلة الربيع العربي التي شهدت صعوداً للحكومات الملتحية في المغرب وتونس ومصر. يمكننا تلمس الفلسفة السياسية الواقعية البراجماتية في كتاب المدغري بوضوح فهو يوصل رسالة مفادها أن الوقوف عند الشكل في المرحلة الحالية في إطار (الحكومة الملتحية) تعتبر خطوة إلى الأمام في المشروع الإٍسلامي العام نحو تحقيق (الحكومة الإسلامية)، ففي سياق أكبر القضايا التي تواجه الحكومات الملتحية وهي مسألة تطبيق الشريعة يتساءل المدغري: “هل بإمكاننا أن نعيش خارج إطار العولمة، والاقتصاد الحر، والنظام البنكي الربوي، وتوجيهات البنك الدولي، وصندوقالنقد ومساعداتهما؟ هل بإمكاننا أن نعيش خارج ميثاق الأممالمتحدة وما تفرع عنه من عهود واتفاقيات؟”. غلاف الكتاب الذي نشرته دار الأمان المغربية سنة 2006 ويقع في 415 صفحة لكنه يحسم الجواب بقوله: “إن أية حكومة تتبنى التوجه الإسلامي في هذا الوقت لابد أن تقتنع بأنها لا يمكن أن تعيش خارج المجتمع الدولي، وخارج النظام الذي تعارفت عليه الدول ورسخته بالمواثيق والمعاهدات الدولية، ولابد أن تتخلى هذه الجماعات عن شوائب وسلبيات الثقافة القديمة… فنحن إننا إما أن نسير في خط الالتزام الحرفي بالشريعة مع العلم أن الحلال بيّن والحرام بيّن، وسوف نحكم على أنفسنا بالعزلة، ونقع حينها في حرج كبير وضيق مما يمكرون لأننا طرف ضعيف في المعادلة، … أو نختار تفعيل الشريعة بكافة مكوناتها ومقاصدها وظاهرها وباطنها وروحها، لأن العبرة بمآلات الأفعال، وأينما كانت المصلحة فثم شرع الله”.
فلا داعي بحسبه إذن إلى التشدد في تطبيق الحدود أو حظر الربا وإلغاء البنوك التقليدية أو استقبال السياح حتى لو كانوا من إسرائيل، كما صرح بذلك يسري حماد الناطق باسم حزب النور السلفي بمصر، أو منع السياح من ممارسة أنشطتهم المعتادة في الملاهي والمقاهي، أو منع لبس المايوه على الشواطئ لأنه أمر يعود إلى رغبة الناس كما صرح بذلك الشيخ محمد عبدالمقصود أحد رموز الدعوة السلفية بمصر، أو إعلان الجهاد ضد الأعداء، أو طرد المستعمرين والتخلص من عملائهم من بلاد المسلمين …!
فالقيام ببعض ذلك فضلاً عنه كله سيستجلب تحرك القوى المناوئة للحل الإسلامي الشامل داخلياً وخارجياً وهو ما لا يمكن تحمل عواقبه، وسوف يؤدي إلى إجهاض المشروع الإسلامي بحسب تقدير المؤلف.
هذا التخطيط التدريجي في فلسفة (الحكومة الملتحية) يوضح حقيقة قبول وتسامح الإسلاميين مع الواقع القائم في البلدان العربية الذي يحتوي على الكثير من المظاهر والنظم التي لا تتفق أبداً مع مبادئهم وقيمهم، وأن هذا القبول مجرد قبول وقتي، الهدف منه الانتقال التدريجي في التغيير من الشكل إلى المضمون، كما قال الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين محمود غزلان : “التغيير الذي نسعى إليه سيتم تدريجياً في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.
ولكن هل ستنجح السياسة البراجماتية في المشاريع الإسلامية الرامية لتغيير الواقع بالتدريج المرحلي، أم أن الواقع سوف يجذبهم إليه بالتدريج.. ثم نشاهد غداً بعض الإسلاميين يرفعون شعار (الحكومة العلمانية) كخطوة نحو (الحكومة الملتحية)!. *من عبدالله الرشيد