غداً آخر مناوبة لي في الرعاية المركزة للطوارئ ،خلال شهرين كنت أقرب ما يمكن لحدثين جليلين " الموت " و " النجاة " ، وضعني الشهران على تماس مباشر مع أدق أنواع المشاعر البشرية ، تلك التي تختلج في قلب أب أو أم ينتظران نتائج حوار طفلهم الحرج مع الحياة ، مشاعر لا يمكن لأحد أن يصفها أو يصنفها .
ما يمكن تعلمه نقشته كوشم في خاطري و ذاكرتي ، مضيت بطب أكثر و فكرة تبرق كالسنا في رصيدي الضئيل من الممارسة ، الموت كحدث لايمكن منعه ، مهما حاول الإنسان و بذل لذلك من مجهودات ، تموت الناس في أعظم مشافي العالم و على أيدي أكبر عباقرته ، لكن لا يمكن الركون لهذه الفكرة بالمطلق ، ذلك أن المفاجآت لا تنفك تحدث ، و المعجزات أمر قابل للتحقق ، في الطب ؛ ضع توقعاتك جانباً و أمض مع مريضك تقاتل جنباً إلى جنب ، فإن خسر هو معركته ربحت أنت شرف المهنة .
ذهلت حقاً للإمكانات التي كانت متاحة في الرعاية ، و ربطت على قلبي كمداً حين علمت أن الرعاية قامت بالكامل و لا زالت تدار بتبرعات خيرية ، هذه ليست التجربة الأولى عموماً ، مثلها مشاريع طبية عظيمة حول العالم ، كلها قائمة بالكامل على فكرتين لامعتين " التبرعات و التطوع " ، ما كانت هذه الخدمات لتقوم لولا وجود نوع ما من المواطنة دفع بأشخاص حالمين و جادين أن يبحثوا عن بدائل لقصور الدولة و المؤسسات الرسمية .عرضت هذه الفكرة منذ مدة على مجموعة من الأطباء في عدن و كنت كمن يؤذن في مالطة ، لم يتشيع أحد لفكرة غريبة الأطوار هذه التي تريد اقامة مشروع طبي خيري في عدن .
لن نتغير أبداً ، التغيير لا يتخير أصحابه ،و لا يأتيك متكئاً على مقعد الأنانية و السقم ، التغيير هو ما تسعى لتحقيقه و تطرق له كل الأبواب ، لكن للأسف ، التذمر و التكيف مع السوء كأمر واقع هو أفضل مواهبنا كأطباء في اليمن !