ربما بحسن نية، وربما بسوء نية، لكن قطعا دون قصد منها، تمشى حكومة الدكتور حازم الببلاوى على خطى أصحاب الكباريهات والأفران وكبار تجار المخدرات، ويصعب أن نفسر ما تفعله عكس ذلك، ما دامت تفكر فى إصدار تشريع يحمى تصرفات الوزراء من المحاسبة القانونية، بشرط أن تكون عفوية ولا يقصد منها الأذى العام، فيتوافر لها النية الحسنة. وهذا بالضبط ما يفعله أصحاب الكباريهات والأفران، لحماية أنفسهم من القانون بالتلاعب به، فكل صاحب كباريه يختار صاحب سوابق عتيد، ويكتب معه عقدا صوريا يحمله فيه مسؤولية إدارة المكان وكل ما يحدث فيه، فإذا ضُبِطت مخالفة عارية أو غش فى المشروبات والمأكولات أو فساد فى العلاقات أو تدليس فى الفواتير، يُظْهر صاحب المحل عقد المسؤولية ويسلم «المسجون المعد سلفا» إلى العدالة، ويعود هو إلى بيته يغط فى سبات عميق بلا ضمير، وهو نفس الحال مع صاحب فرن، إذا ساء الحظ وصادف رقابة جادة، أو تمرد هو على دفع المعلوم لرقابة مرتشية، وكان الرغيف ناقص الوزن أو مخلوطا بدقيق مغشوش أو غير صالح لأكل بنى آدم، فيخرج رجل نحيف فى غاية الغُلب صارخا: أنا المسؤول يا بيه، ويعود إلى السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، بينما صاحب الفرن يكتنز مزيدا من اللحم والشحم على جسده! لكن حصانة الوزراء أفظع بكثير، أولا لأنها بالقانون، ويفترض أن القانون أعمى لا يتوقف عن مطاردة الجرائم صغيرها وكبيرها، ويريد جانيا فيها دون النظر إلى شخصه، سواء ارتكب الفعل المجرم بحسن نية أو سوء نية، وتقديرها راجع للقاضى فى العقوبة المفروضة، وعموما لا وجود لجرائم طيبة، خصوصا مع أصحاب المناصب الرفيعة، لأسباب عامة، منها أن القانون لا يحمى المغفلين ولا الجاهلين به، ولأسباب خاصة إذ يمكن للوزير أن يرجع إلى القانون ويقرأ نصوصه بندا بندا وحرفا حرفا فى كل قرار يصدره، والأهم أن لديه جيشا جرارا من المستشارين والإدارات القانونية.. فكيف يتخذ قرارا خاطئا بحسن نية؟! لكن الأخطر على الإطلاق أن هذا النوع من القوانين غير دستورى بالمرة، ويفتح ألف باب وباب ينفذ منه الفساد بجرأة ووقاحة، كما لو أننا نؤسس له مرجعية شرعية بعد أن صار ثقافة فى عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك! المدهش أن قانون حصانة الوزراء المقترح له سبب غير منطقى على الإطلاق وخاص بالدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء السابق، فالدكتور هشام نال حكما قضائيا بالعزل والحبس سنة فى إبريل الماضى، عقابا له على عدم تنفيذ حكم محكمة بالتراجع عن بيع شركة طنطا للكتان، وفسخ العقد مع المستثمر الذى اشتراها وعودتها مرة ثانية إلى ملكية الدولة. صحيح أن الحكم لم ينفذ وقتها، فربما مباحث تنفيذ الأحكام لم تعثر على عنوان الدكتور هشام قنديل وقتها، أو أنها قصرت المسافة على نفسها و«طنشت»، على أساس أن الرئيس محمد مرسى وقتها سوف يصدر قرارا جمهوريا بالعفو عن قنديل، على غرار قراراته بالعفو عن القتلة والإرهابيين وتجار السلاح والمخدرات. ويبدو أن حكومة حازم الببلاوى تأخذ بالمثل الشعبى الشائع «من لسعته الشوربة ينفخ فى الزبادى»، فأسرعت إلى وزارتى العدل والاستثمار تسألهما صناعة هذا القانون العجيب، وغفلت الحكومة عن عبرة التاريخ وتجاربه، فمشت إلى الهاوية التى سقط فيها الدكتور محمد مرسى، بإعلانه الدستورى الذى حصن قراراته ضد التقاضى، الغريب أن حكومة الببلاوى لم تتعلم الدرس فحسب، بل تمادت فى وضع تشريع دائم، بينما إعلان مرسى كان مؤقتا! ويبدو أن هذا هو التطور الطبيعى لهذا النوع من الأفكار «الساقعة»! وليست هذه هى كل خطيئة حكومة الببلاوى.. فهذه الحكومة المؤقتة تجاهلت مطالب الشعب، بأن تعمل هذه الحكومة فى الحياة اليومية للناس كأنها ستدوم إلى الأبد، وأن تقتصد فى التشريع كأنها سترحل غدا، فإذا بها تخلط بين الأمرين، تدير حياة الناس نصف الوقت وتفكر فى إصدار التشريعات طول الوقت، وقد أصيبت مؤخرا بإسهال تشريعى فى التعامل مع: التظاهر، الإرهاب، الكتابة على الحوائط وتشويهها وإلقاء الزبالة فى الشارع.. إلخ، وكلها لا تأتى على قائمة أولويات المصريين الذين فى أشد الحاجة إلى حكومة تنفيذية قوية تضبط الفوضى فى الأسعار والأسواق والشوارع والقرارات. وليت المصيبة تتوقف عند إسهال التشريع، وإنما فى تقليد طرائق الحزب الوطنى فى صناعة القوانين أيام مبارك، قوانين على حالات، وقوانين تفصيل حسب المقاسات لا قواعد عامة مجردة. لكن كله كوم وقانون حصانة تصرفات الوزراء كوم آخر، فهو يحميهم ويضع الموظفين الأقل فى وش المدفع، كما يفعل أصحاب الكباريهات والأفران! التحرير المصرية