المواطن العربي يتجاوز لحظة القهر بصناعة الحلم. «بمَ يحلم العرب؟» سؤال واحد يحتمل عدداً كبيراً من الأجوبة. سؤال طرحته «الدوحة» على أُناس عاديين، وكتّاب ومثقَّفين، من مدن عربية مختلفة، وجاءت الإجابات جدّ متباينة..بين أحقّية طرح السؤال المفخَّخ «بمَ يحلم العرب؟»، وبين تكلُّس الواقع العربي اليوم بكل تناقضاته واختلافاته ونزاعاته، تبقى الأبواب مشرعة على إجابات قد تحمل بذور الأمل.. الأمل هو المصباح الوحيد الذي نستضيء به حين تتشابه علينا مسارب الحياة المظلمة.. (هشام المانسي)، أمين مكتبة بولاية تطاوينجنوب شرقي تونس، يقول:«لطالما حلمت بزمن أن أكون فيه ما أريد». وتماهياً مع سؤال بماذا يحلم العرب يردّ: «أريد أن تكون الثقافة هي قاطرة النمو والتنمية، وأن يقرأ العرب. فبالقراءة والثقافة، وبالتسلح بالعلم والمعرفة يمكن أن يكون للعرب مكان تحت الشمس. وهذا لا يكون إلا إذا انخرط المواطن في الشأن العام، وتجاوز مرحلة الاغتراب بعد أن انتزع منه بعض اللصوص وطنه. وكذلك الشعور الحقيقي بالانتماء للوطن والأمة. أريد أن أعود إلى وطني، ويعود إليّ، وأن تصير القيم الإنسانية هي السائدة لا قيم رأس المال الزائفة. أحلم أن تكون الحرية الشخصية والحرية السياسية هي السائدة وليست مُجَرَّد فقاقيع ملازمة لهذه المرحلة الانتقالية.
أحلم- كعربي- بالعيش في كرامة وحرية مسؤولة، وأرغب أن تكون الشعارات التي رفعت في أثناء الثورات العربية حقيقة واقعة خاصة الحرية، والكرامة للمواطنين، وضمان العيش الكريم. وكذلك العزة للأمة». ويختتم: «ينبغي الوعي بأن مصير العرب واحد، وأنه لا خيار لهم إلا جمع الكلمة ووحدة الصف استراتيجياً لضمان الوجود.».
أما (أمال الغربي)، وهي أستاذة لغة عربية من ولاية سوسة، فتردّ على السؤال نفسه: «في خضمّ ما يُعانيه العالم العربي اليوم من ظلام حالك يجعله في منزلة بين المنزلتين: فإما النهوض من جديد، أو الاستسلام والركوع للأبد. يأتينا سؤال حارق: بماذا يحلم العرب؟، حتى يتمّ النبش في تفاصيل مخيفة لم تُطرَق، ويُحبَّذ بقاؤها موصدة؛ فمن منظور التفكير المحدود سيهتف الجميع بأنه لا داعي لطرحه لأنهم تحت لواء أمجاد الماضي وتاريخ الأجداد العريق، متوهِّمون أن إرث الأجداد كفيل بإدخالهم إلى مركب الحضارة.
فرحين بكلمة «عرب» المزوَّقة، متناسين «ماذا يحلمون كعرب» لقد تقوقعوا في سراديب الأصل والتاريخ والهوية وأمجاد الماضي هم أنفسهم تناسوها لتصبح كلمات فضفاضة للتبجُّح فقط. دون مساءلة حاضرهم، أو ماذا أضافوا للأجيال القادمة، أو ماذا سيتركون للمستقبل، أو إلى أي مدى تتمحور إرادتهم حتى تكون لهم بصمتهم الخاصة وحتى يساهموا في مواصلة حلقة الحياة التي يرتبط فيها الماضي بالحاضر وبالمستقبل.
عرب باختلاف فصائلهم وشعوبهم وعقائدهم.. للأسف هم اليوم في دوامة الفراغ العميق الذي وَلَّدَ لديهم كبتاً اكتسح تفكيرهم. فأصبح أغلبهم يبشِّرون بزمن الانحطاط. وهذا ليس تشاؤماً بقدر ما هو حقيقة واقعية. لو أدرك العرب ماذا يريدون لأصبح العالم العربي المدينة الفاضلة، هم يفكرون فرادى، وتتشابك أياديهم للشجار أو للرقص، فالتفكير ذو البعد الواحد سيخدم حتماً المصلحة والغاية والهدف الواحد، ولن يحقِّق التقدُّم للأمة العربية مجتمعة.
حلم خارج الحدود :
«أريد أن أعيش خارج مصر»، قالها لي طالب في كلية الطب، ربما هو الوحيد الذي أصرَّ عليها بقوة رغم أن الذين يبحثون، أو يحلمون بالسفر طائفة كبيرة، «زهقت من هذا المجتمع، إنه مجتمع قاس» ولم يدعني أستفسر إذ عاجلني بقوله: «إنه مجتمع الواسطة، ولا أحد يحصل على حقِّه فيه.».
غياب العدالة هو العنوان الرئيسي في مصر في حديث العامة والسياسيين ووسائل الإعلام، إنه الفريضة الغائبة على كل لسان. (رامي) الحاصل على بكالوريوس تجارة يحمل الفحم لأراجيل الزبائن في القهوة قال بصوت مستسلم إنه يحلم «إن الدنيا تبقى ماشية». يريد أن يمتلك قهوة صغيرة تكفي لأحلام أسرته المكوَّنة من طفل معاق وزوجته.
المصريون يضحكون ويسخرون مهما كانت قسوة الواقع، (العم حنفي) الذي يحرس مشتلاً للزهور قال بصوت قاطع وهو يعدل وضع طاقيته: «أهم حاجة فريق النادي الأهلي يأخذ بطولة الدوري كل عام». أمّا (محمد عفيفي) فقد دخل في مشروع مطعم صغير مع أحد معارفه لكن المشروع خسر، وضاعت أمواله، ومع ذلك فهو يغني بصوت عال: «الدنيا ريشه في هوا»، ويعمل مدرِّباً للمصارعة. عمل غير منتظم، يحلم بأن يدرِّب إحدى الفرق العسكرية «عندهم إمكانيات وصحة اللعيبة كويسة». يعلِّق.
الأحلام فائضة لكنها تحتاج للتحقُّق. (سهى) التي تدرس في كلية للهندسة الإلكترونية، تقول إنها مولعة بتصميم السيارات، وكانت تتمنى أن تستفيد بلدها من موهبتها، لكن لا توجد في مصر مصانع للسيارات، ولا تحبّ أن تعيش خارج مصر: «بلد الونس والسهر والأكل الحلو»، وأنها ربما تفتح مشروعاً تستفيد فيه من دراستها، ولا تغادر.من جهته (مصطفى عصام) طالب بكلية الحقوق يحلم بأن يكون لديه معرض للموتوسيكلات، موتوسيكلات حقيقية. ثمن الواحد منها عشرون ألف جنيه، وعندما استفسرت منه قال: «يعني مش موتوسيكلات شمال، تعبانة يعني».
(فيروز) ابنة العشر سنوات تحلم بأن تكون مغنّية للأغاني الغربية، لأنها أفضل من الأغاني العربية «الأحلام بالأجنبي أحسن». الأحلام تتنوّع بقسوة بالغة في مجتمع طبقي، هشام أصلان، وهو صحافي، يقول: «عادة ألجأ إلى أحلام ممكنة التحقُّق، بتصوُّري، أن تركب سيارة مثلاً، لكنك تفكِّر في الماركات التي تتوافر للعاديين، أن تمتلك شقة، لكنها الشقة التي تكفي أسرة من أربعة أفراد، وبلكونة تطلّ على شارع مُسَفْلَت، ووظيفة لا تضطرّني إلى طرق شقق الآخرين وعرض منتجات للبيع، أن توقع بعض النسخ من الترجمة الفرنسية لكتابك، أحلم بجهاز إلكتروني يحوِّل التأمُّلات إلى كتابة، لن أطمع في أن يأتي بلغة حُلوة، سوف أتعب عليها قليلاً، وأحاول ضبطها بعلامات الترقيم واستبدال كلمة بأخرى، وبضعة اختصارات لكنني في النهاية أحلم بما يردِّده المصريون منذ الأزل، وأنه ليس مُجَرّد مثل شعبي، بل لا غنى عنه: الصحة، والستر، والونس.
(العم رمضان السمكري) غمز بطرف عين وقال: «أحلام إيه يا سعادة البيه! راح يهوي بمطرقته على باب معدني لسيارة ليضبط حوافه وهو يقول: «مطرح ما ترسي دق لها».
عِشْها وانسَها: في الجزائر، هناك من يقف على ناصية الحلم دون أن يتحرَّك. وهناك من يركض من أجل تحقيق أحلامه التي في البال. وهناك من يعيش أحلامه بسعادة بالغة، وهناك من يظلّ يتهجّى أحلامه، أو يسردها بكثير من الحسرة والتأتأة الحزينة. لكن كيف يحلم الجزائري؟ وهل أحلامه تشبه أحلام العربي أينما كان؟.
(محمد) ابن الحادية والعشرين سنة، وهو طالب جامعي، تخصُّص صيدلة يقول: «أحياناً وفي لحظات اليأس، أشعر أن الحلم مضيعة للوقت، ومُجَرَّد تفاهة لا تليق لأن يخسر الإنسان وقته فيها وبسببها، شخصياً، كشاب، أرى أن عمري يذهب هباءً في هذا الوطن، حتى الشهادة لا تنقذنا من الواقع الصعب الذي نعيشه كطلبة، نتخرج لنجد أنفسنا نسند جدران العمارات والمؤسَّسات، كأننا نحتمي بها حتى لا نسقط في يأسٍ حقيقي قد يؤدِّي بنا إلى الانتحار كَحَلّ أخير». وبنبرة مشحونة بالمرارة، يضيف محمد: «لكن رغم أن كل شيء من حولي يدفع للإحباط، إلا أنني أسعى لإكمال دراستي، وبعدها أحلم بالهجرة إلى كندا أو أميركا. وهناك سأحاول تحقيق كل أحلامي التي ظلت معلَّقة وبعيدة المنال في وطني، فإن خاننا الوطن وخان أحلامنا، فأكيد هناك أوطان أخرى تحتضننا، وتحتضن أحلامنا».
من جانبه، (مراد - 32 سنة)، وهو إسكافي، علَّق مبتسماً: «مللت من ترقيع الأحذية ومن إصلاحها، مللت من تقليب أحذية الناس طوال اليوم والنظر فيها. أحلم بوظيفة في شركة من الشركات البترولية بالجنوبالجزائري»، قبل أن يضيف: «سمعت أن المرتَّبات في هذه الشركات كبيرة جداً، وبها الإنسان يستطيع أن يعيش كملك، لكن للأسف التوظيف فيها يحتاج إلى واسطة من أهل النفوذ وحتى من أهل السلطة، لكن أنا لا أعرف أحداً من هؤلاء، وكل الذين أعرفهم من أصحاب الأحذية البائسة التي تبحث لها عن عمر إضافي يمنحه هذا الإسكافي، الذي هو أنا، (مصوِّباً يده اليمنى إلى نفسه)». ثم استطرد في حديثه: «حلمي بسيط جداً، وظيفة في شركة بترولية، ومرتَّب محترم أحصل بفضله على سكن لائق، يُمكِنني من تأمين حياتي مادياً ومن إخراج نفسي وعائلتي من عنق زجاجة صنعها الفقر، نعم، هذا هو حلمي بكل ببساطة، لا أريد أن أشيب بين الأحذية البالية، ولا أريد أن أموت إسكافياً عجز عن ترقيع أحلامه وحياته.».
أما (بشير - 29 سنة) صاحب محل ألبسة، فيصرِّح: «لم نعد نعرف كيف نحلم، فوضى في كل مكان، وثورات هنا وهناك لم تأتِ بما قامت من أجله. لهذا، كجزائري وكعربي، لم أعد أعرف كيف أحلم، فقط أتمنى أن يعود السلام إلى البلاد العربية، وأن تكفّ الأنظمة عن سفك دماء شعوبها». وينهي كلامه: «أمام ما يحدث لنا ولأوطاننا، أصبح السلام والأمان أكبر وأكثر مطالبنا وأحلامنا في هذه الحياة.». أما (نسيمة) وهي ممرضة في عيادة حكومية، فقالت: «أصبحنا نركض في هذه الحياة، ونجري من أجل لقمة العيش، هذه اللقمة هي حلمنا، لكن هناك أحلام نشترك فيها ربما جميعاً كجزائريين وعرب، وهي، أن يعمّ السلام أوطاننا، وأن نتَّحد كعرب، أيضاً كجزائرية، أحلم أن تُلغى التأشيرة بين أوطاننا، وأن تُتاح حرية التنقل بين شعوبنا في أوطاننا العربية.»، تضحك نسيمة ثم تختم: «أيضاً أحلم أن أجد عريساً مناسباً، يحتويني، ويحتوي ما تبقى من عمري، فأنا على عتبات الثالثة والأربعين، ولم أجد من يشاركني حياتي، ومن يربِّت على أحلامي القليلة المترامية هنا وهناك.».
الخبز والديموقراطية واليوتوبيا :
ما يزال المغاربة متعلِّقون بالفردوس الأندلسي، لكن أحلامهم تبقى أقرب إلى واقع ترفضه الأحلام. (العربي) العامل البسيط بإحدى معامل تصبير السمك يضحك من سؤال الحلم، لذلك اكتفى بكلمة بسيطة «الخبز!» هذا ما يفترضه حلم الجميع، فيما اختارت الطالبة الجامعية (جهان الدبلاني) التأكيد على أن حلم العرب يُختَصر في كلمة الديموقراطية، لأن الشعوب ملت أن تقاد مصائرها من طرف مستبدّين. لكن فئة أخرى ترى أحلامها من زاوية انشغالاتها اليومية، فالكاتب (إبراهيم الحجري) يحلم، بوصفه كاتباً أو بوصفه إنساناً يجرِّب الكتابة ويهواها، بعالم أشدّ نقاء، عالم تؤثِّثه القيم الآدمية بعيداً عن استرخاص الدماء وابتذال الكرامة البشرية التي دافعت عنها كل المواثيق والأديان.
يحلم بأن تعمّ قيم الإبداع محيطنا الثقافي حتى يتطهر من رجس النفاق الاجتماعي والمزايدات الرخيصة. يحلم بإنسان يعيش طبيعته التي جُبِل عليها بدل أن يتمسرح في أقنعة مشبوهة. يحلم بإنسان متعايش لا يظلم ولا يحقد، يحلم بالقصائد الجميلة تمشي في الطرقات، وبسرد رحيم يجمع العالم كله... أما الشاعر (جمال الموساوي) فيرى «أن الأحلام تختلف باختلاف المواقع: «ثمة فئة تحلم بألف ليلة وليلة، ببذخ السلطة والحياة. وفئة تحلم بأن تنام أعين الرقابة عن تتبُّع الخطوات والأنفاس. وفئة ثالثة ترى في لقمة الخبز حلماً لا يتحقَّق كل يوم، وتتنمى لو بإمكانها فقط أن تعيش في سلام يوماً بيوم، دون قلق مما تخبئه بداية اليوم القادم. وفئة تحلم بأن تكون لها القدرة في التكيف مع أي وضع جديد لاغتنام ما يمكن اغتنامه... وهكذا.».