شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    تعرف على أبرز المعلومات عن قاعدة "هشتم شكاري" الجوية التي قصفتها إسرائيل في أصفهان بإيران    أمن عدن يُحبط تهريب "سموم بيضاء" ويُنقذ الأرواح!    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    حالة وفاة واحدة.. اليمن يتجاوز المنخفض الجوي بأقل الخسائر وسط توجيهات ومتابعات حثيثة للرئيس العليمي    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    ايران تنفي تعرضها لأي هجوم وإسرائيل لم تتبنى أي ضربات على طهران    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    برشلونة يسعى للحفاظ على فيليكس    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    اشتباكات قبلية عنيفة عقب جريمة بشعة ارتكبها مواطن بحق عدد من أقاربه جنوبي اليمن    الرد الاسرائيلي على ايران..."كذبة بكذبة"    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استطلاع مصور لمجلة العربي الكويتية : تريم عطرُ الحَضَارمة
نشر في عدن الغد يوم 25 - 12 - 2013

في العدد 624 من مجلة العربي شهر نوفمبر من العام 2011 ياخذنا اشرف أبو اليزيد في رحلة شيقة مع مجلة العربي ويطوف بنا في أرجاء تريم الغناء عبر قصورها وشواهدها المعمارية وعبق الحضارة الممتد لقرون . نعم هي بلدة القصور ومدينة المساجد كما وصفها الكاتب ، ويصحبنا الكاتب في موعد معه بصحبة الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ إذ يقول (سألته عن هجرة الحضرميين إلى العالم، خاصة جنوب شرق آسيا، فقال: «هم دعاة للعلم والدعوة الإسلامية، كما أنهم يجلبون المعارف عبر ما يحضرون من كتب، وفيمن هاجر كان من يظل خارج البلاد 40 سنة، وحين يعود يكون الظن أنه لن يعودُ، تراه قادمًا من العراق بأربعين جملا محملة بالكُتب،)
ولم ينسى الكاتب ايضا ان يعرج بنا الى حارة المحضار ( في حارة المحضار تأملنا كثيرًا قصر عشة الذي بني ما بين عامي 1339 للهجرة و 1349 للهجرة (رأيت المصادر كافة، وجُل الكتب، ومعظم الناس لا يذكرون التاريخ الميلادي إلا عرضا، لذلك أبقيت على تأريخهم لأنه جزء أصيل من كتابتهم وحديثهم).
يقول الكاتب:- كان سائقنا الحضرمي اللماحُ لا يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر لها قصة، أو حكى عنها طرفة، أو أعاد على أسماعنا موعظة. فقد أحب الاستماع إلى الكبار وهؤلاء يأتون بالموعظة عبر القصص.( تعرفت على صديق لمجلة العربي وقال لي :- إن «العربي» خير ضيف حل على بلدته، فقد عرَّف العالم على حضارة حضرموت». كرر لنا الرجلُ سعادته وأعاد على أسماعنا أغنية الفنان أبو بكر سالم بلفقيه:
«مرحيب .. مرحيب بالطيب الأصلي ..
ليشرف الدار بعد سنين مسهونة»
اترككم مع الإستطلاع كما ورد وأتمنى ا ينال استحسانكم:
استطلاعات - أشرف أبواليزيد
نحن في سماء اليمن، وقد اقتربت الطائرة من مطار مدينة سيئون، بقلب وادي حضرموت، نستطيع من نافذة الطائرة الصغيرة أن نلمح المحيط الجغرافي الأسطوري في تشكيلاته. قد تشبه الطبوغرافيا ألف كعكة وكعكة من الرمال الحجرية. ربما تتماهى الصورة مع قاع محيط ملؤه الرمال. جغرافيا تبدو من السماء قاسية عسيرة على الاجتياز، لا نرى نهرًا، ولا نصادف بحيرة، ولا نبصر بساطًا أخضر. كنتُ أفكر أن تلك الأرض هي جغرافيا الزهَّاد. هذه هي مفازة المنذورين للعلم. لا تشغلهم حياة مبهرجة عن رسم الأحبار في أوراقهم، ولا تلهيهم زينة دنيوية عن قراءة الأوراد في لياليهم. تلك هي الآنية الجغرافية التي تغترف منها مدينة تريم محيطها، وهي المدينة اليمنية التي اختيرت عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الهجري ألف وأربعمائة وثلاثين وعام، فكيف هي الحياة في قلب تلك البقعة الخضراء بإيمانها، المضيئة بنور علمائها، المستكينة كما كانت منذ نشأتها؟
مؤشر الحرارة في الظل يعلن عن أربع وأربعين درجة مئوية، حسنا فعلنا أن اخترنا الطائرة من عدن إلى سيئون، فليست مسافة 400 كيلومتر قصيرة حين تجتاز خلالها الصحراء تحت مظلة تلك الشمس اللاهبة.
لم تكن الحرارة عدونا الوحيد، كنا نريد أن نخصص وقتا تقتله المسافات لنحياه في خريطة أماكن حددناها سلفا، قد لا تقف عند تريم، وربما لا تكتفي بسيئون. استقبلنا في سيئون سعيد الشدادي المنسق العام لفعاليات تريم عاصمة الثقافة الإسلامية، تناقشنا في برنامج رحلتنا. سنقيم في سيئون، ونتخذها قاعدة انطلاق إلى تريم وسواها، قبل أن نبدأ رحلتنا الأولى إلى هناك. بعد ثلث الساعة من مغادرتنا مدينة سيئون، كان الطريق الذي يشبه سبورة أسفلت سمراء يشق الأفق أمامنا قد تحول بفعل متاهة السراب إلى لُجَّةٍ سائلة. فوقه ظهرت لي قوافل ليس لها أول من آخر، تبينت فيهم التجار، والأحبار. عشتُ دقائق أستمع إلى نداء، وحداء، وغناء، مضى وقتٌ وأنا أنصت إلى ترتيل وابتهال وتبتل. كنتُ كمن عاد في الزمن إلى نقطة غير مرئية.
على يمين الطريق ويساره كانت هناك أطلال لبيوت طينية وشواهد لقبور طليت باللون الأبيض، منها ضريح أحمد بن عيسى، الذي يشبه وردة قرنفل على صدر الجبل، تصعد إليها على سلم مطلي كذلك باللون الأبيض يشبه غصن وردة. كان المشهد يشبه مدخلا لديكور فيلم سينمائي عن حياة خلت. لم أفق إلا على نفير السيارة التي تقلنا وهي تجتاز بوابة المدينة عند دوار مروري صغير، معلنة دخولنا أمام بعض المارة، ومحذرة قادة الدراجات النارية من اللهو في منتصف الطريق. كانت تلك صفارة العودة إلى العصر الحالي. الحالي بمعنييها، معنى الإشارة إلى زمن نعيشه الآن، ومعنى مشتق من الحلاوة، في اللسان اليمني المحلي. علامة الوصول إلى تريم كان شعارها المختار للتعبير عن هويتها تتصدره مئذنة المحضار، وهو شعار صممه الفنان الحضرمي سيلان جمعان العيجم. كأن تلك المئذنة علامة على المدينة، ليس فقط معماريا ولكنها علامة على روح المدينة الغارقة في نهر الدرس الديني.
أمام منارة المحضار
على صِغَر المدينة كان لنا فيها أكثر من دليل. أولهم محمد بن عبد الله الجنيد، الذي أخذنا إلى ساحة مسجد المحضار، لنبدأ من حيث اختزل الشعار مدينة تريم، خاصة وقد علمت أنه خصَّ باني تلك المئذنة بأحد كتبه؛ عوض سليم عفيف باني منارة المحضار. أمام المئذنة البيضاء الشاهقة بارتفاعها ونصوعها حدثنا الجنيد عن المعلم عفيف الذي ينتمي إلى قبيلة عربية من سكان مدينة الهجرين بحضرموت، من بيوتات كندة القديمة، وقد ولد بمدينة تريم في أسرة توارثت مهنة البناء، وكان أشهر أخوته حتى أن عدد عماله زاد عن السبعين بنًّاء! وقد توفي المعلم عوض بن سليمان بن سعيد عفيف في سنة 1345 للهجرة.
بنى المسجد عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف في سنة 823 للهجرة (1419 ميلادية)، أما مئذنته الأشهر في اليمن فتقوم على قاعدة مربعة الشكل، تتناقص هندسيا كلما ارتفعنا، حتى تصل إلى ارتفاع 40 مترًا طولا. صحيح أن العمارة الطينية لها حضارتها المتوارثة في المنطقة، لكن هذا الارتفاع الاستثنائي كان جديدًا على حضرموت. النوافذ المستطيلة في بدن المنارة تؤكد هذا العلو، الذي استلهم البناء الهرمي، دون أن ينسى التقاليد المحلية في الإنشاء والزخرف، وهو ما رآه الجنيد علامة على النضج المعماري وفهم أسرار العمارة الطينية.
في الطريق من مسجد المحضار إلى قبلتنا التالية مررنا بمساجد أخرى بناها المعلم عفيف منها مسجد باهارون، ومسجد شهاب الدين، ومسجد الزهرة وكلها في النويدرة بمدينة تريم، ومما جمع بينها أن لها مناراتٍ أسطوانية الشكل، وهو ما يثبت أن منارة المحضار لم تكن استثناء في الطول وحسب، بل كانت أيضا ابتكارًا في الشكل. حين عرف سائقنا أننا من مجلة «العربي» بحث في أسطواناته الموسيقية عن محضار آخر؛ الملحن الشاعر حسين أبو بكر المحضار، وأحضر للأسماع أغنية له يقول فيها:
«يا رايحة في الجو يا غادية، توجهي بي صوب ذي الناحية، لي قلب متشوق يريد الكويت، الكويت ديرتنا فيها ربعنا الكويت. ما عاد بقعة في اليمن خالية، من ذكرها في الحضر والبادية، ونورها قد شع في كل بيت، الكويت ديرتنا فيها ربعنا الكويت» والديرة هي البيت، والربع هم الصحاب، وفيما عدا ذلك من مفردات فهي صنو الفصحى، وهو ما يجعل الغناء اليمني قريبًا إلى الفهم بقاموسه، مثلما هو قريب إلى القلب بإيقاعه وناموسه. قبل أن نصل كنا على صدى الغناء نستمع إلى الجنيد وهو يوجز لنا سيرة تريم وهو الذي كتب عنها وعن أعلامها أكثر من مؤلف، باعتبارها العاصمة الدينية لوادي حضرموت، ومركز الإشعاع الديني منذ ظهور الإسلام.
يقول ياقوت الحموي في «معجم البلدان» إن بحضرموت مدينتين؛ شبام وتريم، وهما «قبيلتان سميت المدينتان باسميهما». وفي «تاج العروس» لمرتضى الزبيدي إن تريم سميت باسم بانيها تريم بن حضرموت. ويُرجع مؤرخون ذكر نشأتها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، كما جاء في «معالم الجزيرة العربية» لسعيد عوض با وزير إنها تأسست إبان الحكم السبئي لحضرموت، ولذلك اشتق اسمها من اسم أحد أبناء سبأ، وجاء في كتاب «شرح الصدور» لعلي بن أحمد المشهور بأن حصن الرَّناد - أحد أهم معالم المدينة - قد بني قبل البعثة المحمدية بأربعة قرون. اتسعت المدينة وهي اليوم تغطي مساحة تقدر بنحو 3500 كيلو متر مربع، وازداد ساكنوها فتجاوزوا المائة ألف نسمة.
في حصن الرَّناد
تجاوزنا العمال الذين يشتغلون بهمة تحت وهج الشمس، يسعون في ترميم ذلك الحصن التاريخي. عبرنا البوابة الضخمة المفتوحة على مصراعيها، وسرنا في الفناء حتى وصلنا إلى قلب البناء الذي يقع في وسط المدينة القديمة، قرب سوقها.
هو حصن، وقصرٌ في الوقت نفسه، حصن لمنعته، وقصر لروعته، ولذلك يسمى الرناد أيضا بقصر السلطان. كان الحصن شاهدًا على تاريخ المدينة، منذ نشأتها، فقد عُثر به على رأس حيوان من الرخام الأبيض يحمل كتاباتٍ بخط المسند، وكان الحصن معاصرًا لأول وال إسلامي وهو الصحابي زياد بن لبيد البياضي الذي أرسله النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) في السنة العاشرة للهجرة بعد أن قدم إليه وفدُ حضرموت لإعلان إسلام أهله.
أتحدثُ عن الحصن تاريخيا دون أن أغفل إعادة بنائه وتجديده وفق المراحل المتعاقبة، بالرغم من أن المصادر لا تذكر سوى تجديد - السلطان العادل عبدالله بن راشد القحطاني (سنة 600 للهجرة) وتجديد حاكم تريم محمد بن حسن الكثيري (سنة 1352 للهجرة)، أي قبل ثمانية عقود، وكان ذلك على يد المهندس علوي الكاف، الذي أشرف على إعادة البناء وتصميم القصر وواجهته، وها نحن نشهد الترميم الأحدث له. تغيرت وظيفة الحصن، فكان قصرًا للحكام، واتخذ أيضا مقرًّا حزبيا أيام الحكم الاشتراكي قبل الوحدة، وكان بالمثل سجنا، وضم أيضا إدارات حكومية (المحكمة، النيابة العامة، الشرطة، شئون الأحوال الشخصية، الميليشيا الشعبية، شئون التجنيد الإجباري)، وها هو بعد الوحدة يتخفف من عبء تلك الإدارات التي اتخذت مرافق خارجية لها، ليظهر في حلة جديدة بعد ترميمه، ويسمى قصر الثورة، بعد أن تقرر تحويله إلى متحف.
لا شك أن هذا المتحف يدين بتصميمه البديع لرائد العمارة الطينية في حضرموت، المهندس علوي بن أبي بكر الكاف، وهو من أسرة كان منها من تولى قضاء تريم، مثلما أسسوا مجالس العلم وحلقاته ومكتباته، فكان لهم أول مجلس للفتوى الشرعية، وأول مدرسة حديثة في تريم، وأول مستشفى خيري في حضرموت - وأول ملجأ ضيافة في تريم (دار الغرباء والوافدين، وتقع شمال سوق الخضار القديم), وشقوا أول طريق يربط بين ساحل ووادي حضرموت، عرف بطريق الكاف، أو طريق البنادر، وهي الطريق التي أنهت العزلة للوادي. كما تأسس أول ناد رياضي ثقافي - له فريق كرة قدم - في حضرموت - بمدينة تريم باسم (نادي الشبيبة المتحدة) سنة 1921 ميلادية برئاسة عمر بن شيخ الكاف.
ساهم أبناء الكاف في الصحافة المبكرة فرأس محمد بن حسن الكاف تحرير صحيفة الإخاء سنة 1938م، ودعم أبو بكر بن شيخ الكاف طباعة مجلة «عكاظ» الأدبية التي رأس تحريرها في العام 1929م الشاعر الحضرمي على أحمد باكثير. وقد عرفت تريم الصحافة باكرًا، وكانت صحافتها المبكرة قلمية خطية، اعتمدت في مادتها على علماء المدينة وأدبائها، فظهرت «السيل» التي أصدرها في منطقة المسيلة بالمدينة محمد بن عقيل بن يحيى سنة 1911م، وبعدها بست سنوات صدرت «حضرموت» التي أصدرها شيخ بن عبد الرحمن بن هاشم السقاف، وكذلك صحيفة «العكظة» للشاعر سقاف بن محمد طه السقاف، وهناك «الحلبة» التي صدر عددها الأول سنة 1938. بل إن هناك صحيفتين في المهجر أسسهما أبناء تريم وهما «البشير» لمحمد بن هاشم، و«حضرموت» لعيدروس عمر المشهور، وصدرت الأخيرة في أندونيسيا سنة 1920م.
يعيدني من حديث الصحافة ما عرفته عن المبادرات النهضوية في تريم والتي تنسب لهمة آل الكاف أيضا، ومنها تأسيس أول شبكة اتصالات هاتفية بالمدينة تربط بين 15 بيتا، وتعمل على البطاريات السائلة. ومن طريف ما عرفتُ أن هناك عملاتٍ محلية صكت في حضرموت، فكانت هناك عملة اسمها خماسي بن سهل، وحينما قلت العملة صكَّ شيخ بن عبد الرحمن الكاف الثري الشهير عملته سنة 1315 للهجرة (1896 ميلادية)، على غرار العملة السابقة وضمنها وأسماها خماسي الكاف. وقد انتهى العمل بهذه العملات المحلية سنة 1943 ميلادية بوصول الروبية الهندية، والشلنات الإفريقية سنة 1951 ميلادية.
قبل أن أغادر القصر كان دليلنا الجنيد قد تركنا إلى مكتبته الخاصة وعاد لي بكتاب شارك في تأليفه مع حسين بن محمد الكاف عن ذلك المهندس علوي الذي نقف في رحاب بنائه. رأيته بين قوسين بعد اسم المهندس لقب «الخضيب» فسألته عن معناه، قال لي: الخضيب هو تسمية محلية لطائر الساج المقنع masked weaver وهو طائر جميل اللون والصورة، يكثر وجوده في نواحي وادي حضرموت، ومما يميز الطائر دقته في بناء عشه، وهو ما يجعل أحد الآراء في سر التسمية بأن هناك تشابها بين دقة الطائر في بناء عشه، ودقة المهندس علوي الكاف في مخططاته للأبنية المعمارية. كان سفر المهندس علوي إلى جنوب شرق آسيا يقف وراء استلهامه لملامح جمالية جديدة على المنطقة الحضرمية ومبتكرة أيضا.
فقد صمم مسجد عُمر ليكون أول مسجد يبنى بمنارتين، فالسائد في تريم، وحضرموت، مساجد المنارة الواحدة، كما أن هاتين المنارتين كانتا ذواتا أضلاع، وليست حسب ما كان سائدًا مستديرة اسطوانية، وأضيفت لهاتين المنارتين الأعمدة المستلهمة بالمثل من سفره، حتى أنه استوحى واجهة بيته من نوافذ أحد الفنادق الشهيرة بسنغافورة.
بلد القصور
حكايات قصر وحصن الرَّناد ومهندسه تختزل قصص قصور المدينة الأخرى، وهي القصور التي مررنا بها، ووقفنا أمامها، وتجولنا فيها، ومعظمها يؤدي وظائف سكنية وثقافية عديدة.
في حارة المحضار تأملنا كثيرًا قصر عشة الذي بني ما بين عامي 1339 للهجرة و 1349 للهجرة (رأيت المصادر كافة، وجُل الكتب، ومعظم الناس لا يذكرون التاريخ الميلادي إلا عرضا، لذلك أبقيت على تأريخهم لأنه جزء أصيل من كتابتهم وحديثهم).
وربما تكون الأرض الزراعية بئر عشة التي أقيم عليها سر التسمية، يمزج معمار القصر بين ما هو حضرمي وما هو جنوب شرق آسيوي، التدوير المحلي للخامات يظهر في قصر عشة، فعدا بعض القطع الحديدية والخشبية والزجاجية للنوافذ والأبواب، استخدم الطين والتبل والنورة المحلية لصناعة معمار هذا القصر.
بعد وفاة صاحب قصر عشة، عمر بن شيخ الكاف، في القاهرة، سنة 1969 ميلادية، جرى تأميم القصر، وحول إلى مسكن عام لأسر أهملته، ولكن بعد 1990ميلادية، وبعد القرار الجمهوري اليمني بإعادة الأملاك المؤممة لأصحابها، استعاد ورثة الكاف قصرهم. وكانت د. سلمى سمر دملوجي قد رأست بعثة أوفدتها اليونسكو لإنشاء مركز للعمارة الطينية، فاختير القصر موقعًا رئيسيا للمشروع، لكن ذلك توقف، وبقي القصر ضمن أهم مائة أثر معرض للخطر ضمن تصنيف اليونسكو، خاصة بعد أن تهدمت أجزاء منه بين عامي 1995، و2002 ميلادية. ثم اختير القصر في العام 2003 ميلادية ضمن مشروع ترميم مشترك بين الهيئة العامة للآثار اليمنية، بإشراف د. سلمى راضي، وجامعة كولومبيا الأمريكية برئاسة د. باميلا جيروم، والجمعية اليمنية للتاريخ وحماية التراث بتريم، وهذا الجهد المشترك الموثق هو الذي بدأ الإسعافات الأولية واللاحقة لإنقاذ القصر بإعادة جميع السقوف المهدمة وصيانة باقي السقوف الأخرى.
.. ومدينة المساجد
الحديث في تريم عن القصور قد لا ينتهي، ففي كل حارة بيت له ملامح القصر، يحكي لك طرفا من سيرة تريم، علامة الحياة للعمارة الطينية. في الطريق رأينا قصر المنيصورة (1351 للهجرة)، وقصر القبة (1355 للهجرة)، وقصر دار السلام (1375 للهجرة)، وقصر التواهي (1356 للهجرة).
بنيت تلك القصور دورًا للسكنى، ولكنها كانت كذلك ساحة للاحتفال، وقد ذكرت صحيفة «الترجمان» في إندونيسيا التي كان يصدرها محمد بن عقيل تحت عنوان «حفل تكريم»، عن تكريم أبي بكر بن شيخ الكاف ومُنح وسامي CBE: دعت إليها جمهورًا غفيرًا من رجال الفضل والأدب، وحددت الحفلة الساعة التاسعة من مساء يوم الخميس 5 / 11 / 1356ه، 6 / 1 / 1938م بقصر باعث روح النهضة في الشباب الحضرمي السيد عمر بن شيخ الكاف العلوي، الجديد الذي تم بناؤه حديثا.
لكن الحديث عن القصور لا يشغلنا عن أن تريم هي مدينة المساجد بلا منازع. ويكفي ما اشتهر عن أن بها 360 مسجدا (على عدد يقرب من أيام العام). لكننا ونحن نمر بين الحارات كنا نتوقف أمام المساجد الطينية التي تتميز بها المدينة وجعلتها - مع عمائرها ومكتباتها وأعلامها - عاصمة للثقافة الإسلامية - ففي منطقة الخِليف مسجد الوعل المنسوب للتابعي أحمد بن عباد أنصاري الأوسي، وهو أقدم مساجد تريم، لأن بناءه كان سنة 43 للهجرة. وفي السوق مسجد الجامع، الذي تجاوز عمره الألف عام (يقال إن عمارته الأولى كانت بين 375 و 402 للهجرة). وهناك مسجد الإمام العيدروس بالسوق (551 للهجرة)، وعند حافة السوق بحوطة تريم مسجد باعلوي. وقربه مسجد الإمام السقاف وتأسس في 768 للهجرة.
في السوق أيضا مسجد باجرش المتوفى سنة 828 للهجرة، ومسجد الأوابين في حارة النويدرة. والطريف أن تأريخ المسجد عرف من خلال قصيدة صاحبه الإمام عبد الله بن علوي بن محمد الحداد: ونحن نرجو به رضاه، وبحساب أرقام الحروف فإنه يعود للعام 1074 للهجرة. وهناك مسجد عاشق، الذي سمي قديما بمسجد آل أبي حاتم فهي قبيلة أنجبت الفقهاء حتى قيل إنه اجتمع في تريم بزمان واحد ثلاثمائة فقيه مفتي منهم أربعون من آل بني حاتم.
في حضرة مفتي تريم
على ذكر الإفتاء، ضرب لنا موعدٌ للقاء الشيخ الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ رئيس مجلس الافتاء في تريم، ومدير دار المصطفى للدراسات الإسلامية. رحب بنا في مجلسه، الذي سيأتيه بعد قليل من يستفتونه في شئون الدين والدنيا. عند محراب المسجد جلسنا، قلتُ إنها المرة الأولى التي أزور فيها تريم، لكنها المرة الثانية لزميلي سليمان حيدر الذي جاءها قبل ربع القرن. قال، أيام الحكم الشمولي! انتهزتها فرصة لأسأله عن تلك الأيام، فقال إنها أيام تطوى ولا تُروى، لأن ما جرى لا يتخيله العقلُ، خاصة بحق العلماء، ولا نستطيع سردها كلها.
قال شيخنا المفتي - لي - إنه لن يسرد ما حدث، لأن مثلنا الحضرمي يقول: «لا تشكِ ضيمك على من لا ينفعك»، فوالدنا «اختطفته الأيادي الشيوعية وأصبحنا مسئولين أمام السلطة في ذلك الوقت عما قيل بحق الوالد أنه دبر مؤامرة ضد الدولة، وأصبحنا متابعين من قبلهم حتى شاهدنا الموت مراتٍ كثيرة، لأنهم أرادوا إيهام الناس بأننا أخفيناه عن قصد! وكان أكبر أبنائه الخمسة - حين اختطف - في سن التاسعة. لكننا صمدنا وتحملنا وصبرنا، لأننا لو هربنا لضاعت أسرتنا. وكانت هناك أمانات لدى والدنا، لأنه كان محل ثقة، فأردنا أن نظل نؤدي الأمانات إلى أهلها. وحين نستعرض ما مر بنا نحمد الله على أن تلك الأمانات بقيت حتى ذهبت لأصحابها في الداخل والخارج. وقد عرفنا أن المقادير يصحبها لطف من الله، وهذه الألطاف هي التي تذهب المصائب».
سألته عن هجرة الحضرميين إلى العالم، خاصة جنوب شرق آسيا، فقال: «هم دعاة للعلم والدعوة الإسلامية، كما أنهم يجلبون المعارف عبر ما يحضرون من كتب، وفيمن هاجر كان من يظل خارج البلاد 40 سنة، وحين يعود يكون الظن أنه لن يعودُ، تراه قادمًا من العراق بأربعين جملا محملة بالكُتب، وتضم مكتبة دار المصطفى هذه الكتب وسواها. وحين استفسرتُ عن سفرياته لنشر الدعوة قال إنها لا تقارن بسفريات أبيه الذي نشر الدعوة وسافر في آسيا وإفريقيا، وأضاف بتواضع «إن ما يفعله هو ليس إلا جهدًا يسيرًا إذا قورن بمن سبقوه». اغتنمت الفرصة - وأنا في حضرة رئيس مجلس الإفتاء بمدينة تريم - لأسأله عن دور الافتاء التلفزيونية التي تكاثرت وتناسلت على شاشات الفضائيات العربية، وأصبح كل من له شاشة مفتيا! قال إننا إذا استعرضنا التاريخ وجدنا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذا سئل أحدهم وهم العالمون أحال على الآخر، تفاديا للسهو أو الخطأ، فالفتوى لا تكون إلا للملم بالمسألة من جميع جوانبها، والملم بحال السائل، وما وراء السؤال، لأن الجواب لا يكون لقضية واحدة، ولذلك فمن علامات الساعة أن توجد مثل هذه الافتاءات في كل الأمور، ومن أفتى بحق وهو يدري بأنه حق فهذا مُثاب. ومن أفتى بحق وهو لا يدري بأنه حق فهذا مأثوم. ومن يفتي بغير الحق فهو آثم. غادرنا المفتي وهو يحملنا أمانتين: أن ننشر أمور تريم الطيبة، وأن نرسل له ما يُنشر.
أمثال حضرمية
كان سائقنا الحضرمي اللماحُ لا يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر لها قصة، أو حكى عنها طرفة، أو أعاد على أسماعنا موعظة. فقد أحب الاستماع إلى الكبار وهؤلاء يأتون بالموعظة عبر القصص.
اغتاظ رجل من جاره الذي يستعير الأشياء فيفسدها أو لا يعيدها، وقرر ألا يعيره أي شيء يطلبه. ذات صباح جاء الرجل يطلب حمار صاحبنا، فأجابه صاحب البيت بأن حماره نفق! حينئذ نهق الحمار، فعاب السالف على ناكر الحمار، فأجاب صاحب البيت والحمار مغتاظا: هل جئت تطلب عذرًا أم حمارًا؟ وهكذا يعيد علينا محمود با وزير اللماح الأمثال وقصصها، تلطف حرارة الجو.
قررتُ أن أرد على صاحب الأمثال بالمثل، وكنت قد التقيت بالإعلامي رشاد ثابت الإذاعي في رادية سيئون، فأوصيته أن يحضر لي كتابا للأمثال من حضرموت أردُّ بها على معجم الأمثال الذي يسير معنا، وبالفعل جاءني بكتاب جميل عنوانه (2000 مثل من حضرموت) جمعها وشرحها حسن أحمد بن طالب العامري، وقلت إن هذه الذخيرة ستكفيني حتى أغادر تريم في امتحان باوزير.
وأمثال حضرموت مصادرها كثيرة، فيقولون (الطارفة للذيب)، والطارفة هي القاصية، والذيب هو الذئب، ومصدر المثل قوله (صلى الله عليه وسلم)، «إن ما يأكل الذئب من الغنم القاصية). ويقولون «الطبيعة في البدن ما يندرها إلا الماء والكفن»، ويندرها أي يخرجها، والقصد كما يقول الشاعر عن تأصل الطباع المستحكمة:
حُبِّي لكم طبْعٌ بغير تكلف
والطبع في الإنسان لا يتغير
ومنها ما هي أمثال لها مرادفاتها عن الشعوب العربية، بالرغم من اختلاف المفردات: الطول طول نخلة والعقل عقل رخْلة! والرخلة هي أنثى الضأن الصغيرة، وربما نذكر أيضا استعانتهم بمصادر الأمثال العربية الفصيحة، فيقولون لا اختلفوا السِّرقان قل ظهر المسروق، وواضح معناها (إذا اختلف اللصان ظهر المسروق).
ومن الأمثال الحضرمية ما يأتي من خبرة أهل تريم وحضرموت الزراعية فيقولون «لا تطرح ذريك في بطحاء»، لأن البذور لن تنمو في أرض غير صالحة للزراعة، وهم يقصدون عدم إهدار المال والجهد فيما لا جدوى منه. إن كثرة المصادر الدينية والأدبية والحياتية للأمثال الحضرمية لتؤكد عمق ثقافة الشفاهي الذي يستند إلى تاريخ كتابي مدون ثري.
كنوز خطية
كنا كلما نعودُ إلى الفندق نحسُّ بوحشة كبيرة، فربما نكون نحن أنا وزميلي المصور ساكنيه الوحيدين، تعجبتُ من خلو المرافق من زوار وسياح، حكوا لي في الماضي كيف كانت حضرموت محجًّا للسياح والباحثين!
لكن الإعلام المدجج بالمبالغات سكب الكثير من الزيت على نار الشائعات، فيكاد من يسمع الأخبار - حين كنا هناك - يظن أننا لن نعودَ من اليمن! كانت البلاد آمنة لدرجة مذهلة، هادئة لدرجة قياسية، ولكن حرارة الجو لم تكن وحدها السبب في هجرة زوارها لها، وانصرافهم عنها. اتخذت الدولة الكثير من التدابير لذرع الأمان، حتى أنني حين ذهبت لشراء بطاقة خط هاتفي جوال، لم يكتف البائع بصورة جواز السفر، بل جعلني «أبصُم» على قسيمة الشراء بعد التوقيع عليها. إن هذا يعني أن تليفوني مربوط بي، ولو استخدم في غير الخير وصلوا إليَّ. لكن الأمن الحقيقي وجدته ليس في الإجراءات بل في احتضان الحضرميين للآخر الزائر الضيف العربي والأجنبي على حد سواء. عطرُ الحضارمة يكمن هنا، في التواصل الإنساني عبر الثقافة والمعرفة، عبر السفر والاتصال، كانوا ولايزالون رحالة، وكانوا وسيظلون رسلا لقيمهم، دون أن ينكروا على الآخرين عشقهم لثقافاتهم النوعية والمختلفة.
قال لنا المفتي إن الحضارمة اعتنوا بالمكتبات كما اعتنوا بالتدوين، وتلك العناية هي التي قادتنا إلى زيارة بعض آثارها، وأعني كنوزهم الخطية في مركز النور الذي ابتكر طرقا محلية للحفاظ عليها.
دعانا القائمون على مركز النور للدراسات والأبحاث إلى جولة في أقسامه. كان أفضل ما رأيت من ابتكاراتٍ محلية ذلك الجهاز الذي تم تصنيعه - والحاجة أمُّ الاختراع - بالتعاون مع إدارة دار المخطوطات اليمنية بصنعاء وبإشراف خبير المخطوطات أحمد مسعود المفلحي - لترميم المخطوطات والوثائق وصناعة الورق الذي جرى تسجيله لاحقا لدى حماية الملكية الفكرية، كأول جهاز من نوعه يصمم باليمن. ليس التوفير المادي وحده هو ما ضمنه المركز، بل تدريب الخبرات على الانتفاع بما هو محلي، وقد أدركت أن تلك صفة ملازمة لعمارة الحضارة الطينية التي تتميز بها تريم والمنطقة، وهي تستخدم الخامات المتاحة في محيط البيئة للبناء والأدوات الحياتية.
لم يكتفِ المركز، وهو جهدٌ أهلي كمعظم المؤسسات التي مررنا بها، بصيانة مخطوطاته، بل قام بفهرسة وتصنيف وترميم وتجليد وتصوير المخطوطات والكتب النادرة في أكثر من 20 مكتبة من مكتبات الأربطة والمكتبات الخاصة، بعد مسح أولي لنحو 50 مكتبة، وهو يقدم خدمة جليلة بإعادة نشر بعض المخطوطات بعد تحقيقها، فضلا عن الدورات المختلفة للشباب التي قد تمتد لتشمل التصوير الفوتوغرافي.
حين عدنا ظهرًا إلى الفندق، سرني أن يكون هناك زوار ونزلاء. في البهو تعرفت على صديق لمجلة العربي اسمه خليل رجب حماد قال لي إنه التقى بفريق العربي الذي زار سيئون في العام 1965م:
«العربي» كانت خير ضيف حل على بلدته، فقد عرَّف العالم على حضارة حضرموت». كرر لنا الرجلُ سعادته وأعاد على أسماعنا أغنية الفنان أبو بكر سالم بلفقيه:
«مرحيب .. مرحيب بالطيب الأصلي ..
لي «الذي» شرف الدار بعد سنين مسهونة»
قال لنا رجب إن من بين ما نشرته «العربي» قبل أكثر من 44 عامًا هو مشروع بناء مدرسة القرن، وهو ما دعا المهجريين الحضارمة - بعد رؤية «العربي» - إلى دعم بناء تلك المدرسة.
البحث عن فتاة غلاف
يكاد كل غلاف من أعداد «العربي» - أو لنقل النسبة الغالبة من أغلفة «العربي» - أن يحتفي بالمرأة، ليس فقط لأن النساء يقدمن مدنهن على النحو الأبهى بزينتهن وأزيائهن، وابتساماتهن، ولكن لأننا لا نستطيع أن نغفل نصف المجتمع. لكن البحث عن غلاف للمرأة في تريم أعيانا، ففي كل مرة تكاد الظروف تبتسم لعدسة زميلي سليمان حيدر تنغلق بعد أن تضيع الفرصة تلو الأخرى. في المدن العربية والغربية على حد سواء يمكن أن يحدث ذلك، لكن الصعوبة تكمن في مدينة محافظة يعتقد أبناؤها أن ظهور المرأة يمكن أن يسيء لها! وهو مستغرب في بلدٍ أعتقد أنه قطع أشواطا كثيرة في الاحتفاء بالمرأة، مبدعة وأديبة وفنانة، وأستاذة وأكاديمية وعالمة.
كانت طائرة حيدر إلى صنعاء تسبقني بيوم كامل. في الصباح التالي، جاءتني البشرى بأن الغلاف سيبتسم أخيرًا حين تزينه فتاة تريمية. نظرت إلى الساعة، وكنتُ في سيئون، قلت لصديقنا سعيد الشدادي الذي يسَّر لنا كلَّ اللقاءات في تريم وحولها: «الطائرة ستقلع في غضون الساعتين، فكيف سنذهب إلى تريم - على بعد نصف ساعة - ونعود بعد أن نصور، وألحق الطائرة؟ نظر إلي نظرة الواثق وهو يقول إن طائرة سيئون - صنعاء لن تطير من دوني هذا الصباح.
كنتُ قد خبرتُ الطريق الذي نمر به كل يوم، منذ سكنا سيئون، فما إن عبرنا شعار العاصمة الثقافية حتى تنفست الصعداء، لأننا قطعنا نصف المسافة. دخلنا إلى إحدى دور تعليم الفتيات. ويبدو أن مديرة الدار المنقبة لم تكن تدري عن مهمتنا!
أخذت أوزع النظر بين سعيد الشدادي والساعة، وجاءت المفاجأة بأنه لا يوجد تصوير، وأن مديرة الدار أبلغت رفضها بالأمس! حتى يعوضني الشدادي عما جرى، لم يدعني أركب طائرتي الأصلية، بل رتب تغيير الحجز لكي ألحق بالطائرة المباشرة التي تحلق قبلها! إنه اليمن السعيد!
النساء التريميات قد يختفين من الطريق، لكنهن يعرفن الطريق إلى المساجد، وقد رأيت وأنا أمر بحارة صغيرة تتسع لشخصين أو ثلاثة على الأكثر فتاة تجلس خلف عتبة البيت، وقد اعتمرت وشاحها تقرأ القرآن بصوتٍ جميل. لم يعد التدين في تريم تكلفًا، وليس التحفظ تأففا، بل هي الخطا التي ترسم التعفف في كل حين. دلني بعض من تحدثوا إلينا على مساجد مصليات للنساء، وهي تُنسبُ لنساء صالحات، قد يكون بعضها أسسه الرجال، ثم هجرت، قبل أن تعمر من جديد وتخصص للنساء (وأحيانا يحدث العكس). ومن أشهر مصليات نساء تريم: مصلى عيشة بنت الشيخ عمر المحضار، ومصلى خردة بالخليف، ومصلى شهابة بالنويدرة، ومصلى جنيدة بالسوق، ومسجد الحداد بالمحيضرة.
عطر الحضارمة
في إحدى الأمسيات اتجهت للقاء رئيس اللجنة الفنية لتريم عاصمة الثقافة الإسلامية، وهو الدكتور محمد أبو بكر المفلحي وزير الثقافة اليمني، الذي يحضر للإشراف على تنفيذ الخطة المقررة والمشاريع الثقافية الكثيرة التي تمت جدولتها منذ اختيرت تريم عاصمة للثقافة الإسلامية. الفعاليات كثيرة في تريم، وهي أيضا تقام في إطار الفعاليات خارج المدينة، سواء في شبام، أو سيئون، أو حضرموت الوادي والساحل. حدثني الدكتور المفلحي عن المشروعات التي أنجزت، وتلك التي في طور التحقق، فوزارة الثقافة تنفذ أكثر من 460 نشاطا، نصفها أو يكاد مخصص لطباعة الكتب (200 كتاب) وتكريم رواد اليمن، - من بين 553 فعالية ثقافية أقرت في إطار الاحتفالية، بين مشاريع للبنية التحتية، ومؤتمرات وسواها.
قال الدكتور المفلحي إن الدور التنويري التاريخي للمدينة بدأ برفضها لدعاة الردة الذين ظهروا بعد وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، فلم تناصر أو تؤوي المرتدين عن الإسلام، واستمر هذا الدور بإنجاب المدينة للعلماء والدعاة والمفكرين والمبدعين، الذين تخطى دورهم سور المدينة وحدود الوادي، الذين بدأت أسفارهم مع أشقائهم في حضرموت عبر الهجرات الشهيرة إلى الهند وإندونيسيا والملايو وسيلان قبل أكثر من خمسة قرون لتجلب العطور، وتأتي بالتوابل، وتستورد الحرير، وغيرها من منتجات الشرق، ولتأخذ هذه البضائع طريقها برا وبحرًا لاحقا إلى مصر وفلسطين والشام، حتى أوربا.
استطرد المفلحي «كانت الهجرات الحضرمية إلى الشرق الآسيوي قد بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر. واستطاع ذلك المجتمع المهاجر أن ينشيء مجتمعًا يمنيا واعيا بأهمية الاندماج في فضائه الجديد، وهو اندماج لم يقطع صلة الأنساب للمهاجرين، ولم يفت في عضد الهوية الوطنية، وكانت سماحتهم رسالة سلام للدين الذي دعوا إليه، فانتشر الإسلام عبر الحضارمة بالحب، لا بالحرب».
كنتُ أستمعُ إلى الدكتور المفلحي وأنا أتأمل تاريخ تلك الهجرات الحضرمية. قلتُ لنفسي، صحيح أن الحضارمة أتوا بالعطور والحرير من الشرق، لكنهم ذهبوا إليه بعطرهم الخاص. عطر الحضارمة كان أخلاقهم، ورسالتهم، ونموذجهم. المشروع الذي وضعه علماء تريم - مقيمين ومهاجرين - كان ولا يزال، وسيظل إحياء علوم الدين، والتمسك باللغة العربية، وإشاعة السلام.
أعادني الدكتور المفلحي إلى تريم اليوم حين اختتم كلامه بأن أهالي تريم ضربوا مثلا في هجراتهم المسالمة، ففي الوقت الذي أصبحت الهجرة العربية والإسلامية تمثل هاجسا يحمل المشكلات للآخر الغربي في وطنه، فيصبحون متشددين في قبولهم للمسلم والعربي، تعد الهجرة التريمية - نموذجا للهجرة الحضرمية - مثالا للهجرة المسالمة، التي تفرض شريعة الإنسان، بقيمه الإسلامية الداعية للخير. كانت المدارس والأربطة التي أنجبت هؤلاء المهاجرين هي التي أهلتهم ليكونوا ذلك الضوء، ومن ثم فإن الحفاظ عليها، لمستقبل أجيالنا القادمة هو أمرٌ مهم من أجل مواصلة الدور المعرفي الذي مارسته المدينة منذ وقت مبكر وحتى اليوم.
عمارة الحضارة الطينية
كانت الحارات التي نتجول بها تسردُ علينا طرفا من أسرار عمارة الحضارة الطينية. الباب الكبير الذي يمثل درة في قلادة سور القصر يستدعي على ضلفتيه أماكن إسلامية مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو عمارة شهيرة مثل منارة المحضار، أو خطوطا جميلة وزخرفة نباتية. وكأن الداخل كتاب، وهذا غلاف الكتاب الملون، أو عنوانه المرسوم بأناقة، وكأن مصمم الباب يقول لك: البيت يبان من عنوانه. وهناك بوَّابات عليها آيات قرآنية، فدار عبد الله العيدروس المنشأة في القرن التاسع الهجري تحمل بوابتها سورة «يس» كاملة.
السور يمثل وظيفة أخرى هي إضفاء خصوصية على حرم البيت من الداخل. والأبواب والنوافذ مصنوعة من الحُمر، وهو خشب قوي.
زوايا سور البيت الخارجي، أو أركان جدرانه، لا تعرف القسوة، إنها مستديرة ناعمة، كأنها تؤهل السائر للمنحنى القادم والمدخل التالي، فلا يفاجأ بالقادمين في عكس الطريق. هي أيضا انحناءة مستقاة من أسطوانية المئذنة، وعزف على أحد مفاهيم العمارة الإسلامية. في البيوت الصغيرة التي لا تملك السور الحافظ من العيون الساتر من النظر، يحتال المعماري بأن يجعل الباب وراء جدار يشبه ساترًا أو جدارًا لا يغطي سوى الباب، وكثيرًا ما يكون الباب مثل منبر، تصعد إليه بدرجتين أو أكثر، وهي صفة معمارية إضافية مستلهمة من عمارة المسجد في الداخل. وهكذا لن تجرح عيون المشاة رؤية من تفتح الباب!
البيوت أغلبها من ثلاثة طوابق، على جدرانها نقوش وزخارف على هيئة دوائر وخطوط، وبعض الجدران تزدان بآيات من الذكر الحكيم، وربما بأبياتٍ من الشعر. في عمارة البيوت القديمة يلاحظ المتأمل وجود شمسة، وهي فتحة للتهوية من الداخل. بنيت المدينة على نظام الحارات، ويمكن أن تحدد مجموعة كل حارة حين تنظر إليها من عل. بالرغم من تلاصق المنازل، ستجد في كل حارة مجموعة من المساجد، وأمام كل مسجد بستان، وأحيانا ترى بئرًا للسقاية أو آثارها الباقية، وهناك - أحيانا - حوض لسقي الماشية، تذهب مياهه الزائدة لري أشجار نخيل ومحاصيل مما أوقف عادة للمسجد، يذهب ريعها إليه.
بعض البيوت الجديدة في تريم قد لا تلتزم بمادة البناء التي اشتهرت بها المدينة، الطين اللبن، المخلوط بالتبن، لكنها تحاول أن تأخذ سمت البيوت بتصميمها المعماري، وواجهاتها الملونة بلون الطين.
الدراجات النارية تحل مشكلات الشوارع الضيقة، التي لا تستطيع دخول السيارات إليها. فالدراجة النارية تقوم مكان سيارات الأجرة، التي لم أرها داخل المدينة. لم تعرف تريم السيارة إلا في العام 1920، حين وصلت أول سيارة مفككة على ظهور الجمال من المكلا على بعد 300 كيلومتر.
الليلة الكبيرة
تلك كانت ليلة الوداع، وقد أعد لنا الشدادي والجنيد وفرقة المسرة للإنشاد التابعة لدار المصطفى، ليلة وداعية استمتعنا فيها بهدوء الليل، وصفاء المناخ، وقوة الصوت، وجزالة الإيقاع. كانت رسالة الليلة الأخيرة .. الكبيرة، هي أن الترويح عن النفس لا يقل أهمية عن تعليمها وتهذيبها. وضع المنظمون لافتة يرحبون فيها بمجلة «العربي».
في الباحة نصب المنظمون السماعات المكبرة للصوت، وحين بدأ أداء النشيد - الذي ظهر في تريم منذ ألف عام ويزيد - تحولت الشرفات حول المكان إلى قاعات استماع. فالذين أمضوا نهارهم في طاعة الله، والشباب الذين أحبوا إيقاعات الفرقة، اصطفوا ليشرفوا من عل وهم قابعون في الظلام حزمة النور والشدو.
قال منشد الفرقة إن أهم أهدافهم هو توجيه مسار الإنشاد الإسلامي الهادف والارتقاء به بما يناسب الجيل المعاصر. سافروا إلى مصر والإمارات، والسعودية للمشاركة بفنهم الذي كُرِّم أكثر من مرة باليمن. بعد أن اندمجنا طربين، أحسسنا أننا كساكني كوكب يسافر بغنائه في الليل. وكان بيننا نجوم في الغناء. وكان الشجن يرسم ساعاتنا الأخيرة في تريم. كانت «العربي» هنا قبل أكثر من 44 عامًا، ثم عادت إلى تريم قبل ربع القرن، وها نحن نجدد في الألفية الثالثة الزيارة للمرة الثالثة. إنها مدينة تدعو للتأمل، وتزرع الأمل، وترسمُ صورة مدينة إسلامية تفخر بثقافتها، وتحتفي بها، وتحافظ عليها. وداعًا تريم، أو إلى اللقاء، يا عطر الحضارمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.