ما من حُكم مطلق ومستبد إلَّا وتم تجريبه واختباره في هذه البلاد التي لم يستقر حالها نتيجة لهذه الهيمنة المستبدة . من يقرأ تاريخ اليمن القديم والحديث سيجده زاخرا بصراعات واضطرابات وحروب ممزقة لليمنيين ومنهكة لهم ولدولتهم التي لم يقم لها بنيان حتى اللحظة الراهنة التي مازالت فيها نزعة الاستبداد قائمة ومهيمنة موضوعيا وذهنيا وفكريا . عقلية مثل هذه التي تتعامل مع البلد وكأنه قطعة كيك توزعه بمديتها كيفما تشاء وعلى من تريد ليست مؤهلة لخوض غمار المرحلة القادمة وتحدياتها ، فما لم تتخلى عن نزعة الاستئثار والتسلط المكتسبين تاريخيا وسلوكيا وذهنيا ستبقى الدولة الاتحادية واقاليمها مجرد فاتحة لمشكلات مجتمعية مضافة الى مشكلات الدولة اليمنية السابقة والحالية . ولتقريب الصورة أكثر كان التوحد السياسي بين الدولتين قد غلبه منطق النظامين المستبدين الموحدين للبلاد بعقلية النظام الواحد الذي لا يرى في الدولة الجديدة غير مساحة واستحواذ للسلطة والنفوذ . فكل نظام كان هاجسه الاول اقصائي استحواذي أحادي أكثر من ان يكون همه الاساس منصرفا في مسألة الشراكة الثنائية والوطنية ، المرحلة الانتقالية التالية للتوحد كشفت عن خلل بنيوي في رأس الدولة الموحدة . ولأنه يتعلق في طبيعة النظامين المتصارعين في حلبة نزال قد تكون غير جاهزة فضلا ان احد طرفي النزال لم يكن مستعدا لخوض الصراع ؛ فإن ما حدث تاليا من ازمة سياسية ومن ثم حرب كارثية مدمرة ليس إلا نتيجة متوقعة لتوحد سياسي بين نظامين أكثر من يكون بين مجتمعين ودولتين ، فالأزمة والحرب اعدهما نتاج ذهنية استبدادية اقصائية لا ترى في الدولة الموحدة غير ذاتها المستأثرة المهيمنة على مقاليد السلطان وقراره وقوته وسطوته . وإذا كان فشل التوحد مرجعه ان كل نظام اراد فرضه بناء على منطقة الاستبدادي التاريخي ؛ فإن الدولة الاتحادية المستقبلية يجب ان لا يكون مصيرها رهنا لعقلية كهذه . فقبل الحديث عن مقررات الحوار الوطني ينبغي ان لا نغفل حقيقة ان مؤتمر الحوار لم يسلم من هذه الذهنية المستبدة فسوى كان هذا الفصيل مشاركا في الحوار او مقاطعا له ، رافضا لفدرلة ثنائية او مؤيدا لفدرلة خماسية او سداسية . ففي الحالتين كان الحاضر الابرز هو الاستحواذ الاستبدادي الذي لا يرى في مؤتمر الحوار سوى استعادة دولة الجنوب الى حدودها وسيادتها وإما بقاء هذا الجنوب تحت هيمنة ووصاية قوى الحكم في الشمال . ذهنية مثل هذه التي هاجسها الاوحد الهرب من واقع عصي اصلاحه او تغييره وان استدعى الامر منها قبول الفدرلة الثنائية كحد ادنى تقابلها ذهنية خوفها منصبا في كيفية حفظ جغرافية الجنوب ضمن سياق فدرالي متعدد وان اقتضى منها الاصرار على تقسيم اليمن الى ستة اقاليم بدلا من اثنين . اعجب ما في المسألة ان البعض كان يطرح خيار المحافظات ال22كاقاليم ، كأن كثرة الاقاليم ستبقي اليمن موحدة ، كذلك هو حال الستة والسبعة الاقاليم التي ربما قصد بها حفظ الوحدة ، فكلا الخيارين أسوأ بكثير من خيار الاقليمين . فإذا ما كانت الدولة الاتحادية ستدار بعقلية كهذه الوجلة المسكونة بهواجسها الاستحواذية فإن الفدرلة الثنائية اعدها اقل واخف ضرر من 21أو 6دول . اليمن وعلى مدى تاريخها الطويل معاناتها كامنة في هذه الهيمنة السياسية ، لقرون واليمنيين لم يهتدوا لطريقة ما تجعلهم يديروا شؤون حياتهم دونما هيمنة او وصاية ممركزة بشخص او فئة او قبيلة او منطقة او سلالة او عائلة او مذهب . لا اخشى على هذه البلاد من الفدرلة او حتى التجزئة ، فالخوف الحقيقي يستوطن ذهننا السقيم الذي لا يتورع مطلقا عن ابتداع الطرق والوسائل التي تمكنه من قهر واذلال وقمع واقصاء الاخر . المسألة لا تقتصر هنا على فئة او جماعة او تنظيم سياسي او جهة جغرافية بعينها ، بل اجدها عضالا مزمنا يستولي على تفكير معظم اليمنيين ، فذهنية التسلط ماثلة في تصرفات رب العائلة مع زوجته واولاده كما ونراها مسلكا مع الاخرين وفي نطاق الحي والمدرسة والقرية والمسجد والصحيفة والوظيفة والجمعية ووووالخ بمعنى أخر انها ثقافة جمعية كونتها قرون من الاستبداد . السؤال الملح الآن : هل اتفقنا جميعا على تشارك المستقبل دون وصاية او هيمنة ؟ وإذا اتفقنا بالفعل بان الدولة الاتحادية يستلزمها عقلية وممارسة مختلفة متحررة كليا من اغلال الاستبداد والاضطهاد الماضوي التاريخي ؛ فهل سنتفق بالمقابل بان الفدرلة تعني منتهى للهيمنة والوصاية وبداية لشراكة وتعايش وتنافس ونهضة واستقرار ؟ نعم الفدرلة طريقة عادلة لتشارك المجتمع في السلطة والثروة والقرار ؛ لكنها وحين تصير مجرد انتقال من هيمنة الى هيمنة ومن نزعة جهوية الى نزعة فئوية ؛ فإنها ستكون كارثة أسوأ بكثير من سابقاتها . فاليمن لم يمزق لحمتها ويبدد مواردها ويعطل حركتها سوى هذه الهيمنة المركزية المحتكرة للسلطة والثروة والقوة والموارد والقرار ، فتوزيع السلطة وتشاركها احيانا بين المركز والاطراف ينبغي فهمه على انه فاتحة لعهد جديد لا بداية لهيمنة جديدة ولنزعات جديدة على مستوى الاقليم ومع الاقاليم .