إذا كان بعض الغربيين قد شخَّصوا بعض سمات الشخصية العربية، وتوصلوا إلى أنها شخصية في بعض جوانبها، تكتفي بالقول من دون الفعل، “حيث إن العربي يقول وكأنه فعل”، فإن القرآن الكريم قد حذر من الاكتفاء بالقول من دون الفعل، حيث قال تعالى “يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تَقُولونَ ما لا تفعلون * كَبُرَ مقتاً عِند الله أن تَقولوا ما لا تفعلون” (الصَّف: 2 3) . والمتأمل للحياة السياسية اليمنية، سيلحظ ممارسين سياسيين مولعين بالقول من دون الفعل، حيث تُعد اليمن من أكثر الدول العربية إنتاجاً للنصوص، وغزارة في سك الوثائق والبرامج والاتفاقات السياسية . ومن المفارقات العجيبة، التي تشهدها اليمن، أن العقل السياسي اليمني يُبدع في نحت النصوص ولكنه يعجز عن محاسبة اللصوص . فأهداف الثورة اليمنية، على سبيل المثال، حضرت كنص، وغابت كتطبيق وفعل ثوري . ألم يتحدث الهدف الأول لثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 اليمنية عن “التحرر من الاستبداد والاستعمار، وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات” . صحيح أن الاستعمار المباشر غادر من الباب، ولكنه عاد من نافذة مكافحة الإرهاب . أما العدل فقد تأخر وحضر الظلم . أما الاستبداد فقد مكث متعانقاً مع الفساد . كما أن الفوارق بين الطبقات ازدادت وسيطرت قلة على مقدراتنا . أما الهدف الثاني للثورة المنادي ب”بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها” فقد توارى وزُج بالمؤسسة العسكرية اليمنية في حروب يمنية يمنية، أضعفت اليمن مجتمعاً ودولة وجيشاً رسمياً و”شعبياً” معاً . كما أن الشعب اليمني ما زال يعاني اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، ولم يُرفع مستوى الشعب كما نادى الهدف الثالث للثورة . أما الهدف الرابع فقد حض على “إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل”، إلا أن اليمنيين ما برحوا ينشدون الديمقراطية الحقيقية الغائبة، فلدينا نصوص عادلة وأفعال جائرة، حيث حضر النص الديمقراطي وغاب الفعل الرشيد، ونشدنا التعاون فحضرت الأنانية المفرطة . أما الهدف الخامس للثورة فقد أكد “العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة” . صحيح أننا نجحنا في إعادة تحقيق وحدة الوطن اليمني في 22 مايو/ أيار 1990 ولكننا، مع الأسف، تقاتلنا بعد مضي أربع سنوات على إعلان وحدتنا . بل إننا نعاني الآن أزمة هوية وتكامل وطني، لدرجة أن بعضنا يتبرأ من يمنيته ويحتمي بمنطقته، وبات ينادي بفك الارتباط، ويا للأسف، فقد توحدنا جغرافياً، ولكننا تشطرنا نفسياً وهوية . إن من معضلات الحياة السياسية اليمنية معرفتها لنصوص لا ترى النور، فثمة فجوة وفصام نكد بين النصوص والعجز عن تطبيقها على الواقع اليمني . فثمة بون شاسع بين المنطوق به والممارس، حيث غدت النصوص والوثائق السياسية، والمبادرات الرسمية والحزبية بمثابة “منجزات لفظية” لا تطبق، لأنها صادرة عن نخبة حاكمة ليست مهيأة لتداول السلطة مع المعارضة، بسبب انتشار ثقافة التملك والاستحواذ السياسي . إن من معضلاتنا السياسية كيمنيين وعرب أن لدينا ديمقراطية اللغة واستبدادية الممارسة، وحضور النص الديمقراطي وغياب السلوك الرشيد، وإرادة الفعل السياسي . الاكتفاء بنحت النصوص وتحويلها إلى غاية من دون تحويلها إلى حركة وفعل . إن من العجائب اليمانية المعاصرة أنه حتى الآن لم يتم تقديم فاسدٍ واحدٍ للمحاكمة لينال جزاءه، وهذا يبدو وضعاً لا يتفق والمنطق ولا مع طبائع الأشياء ولا ينسجم مع الطبيعة البشرية التي تصيب تارة، وتخطئ تارة أخرى . إن من المحزن وجود حالة غير سوية في الحياة السياسية اليمنية، حيث نجد الفاسدين يتدثرون بعباءة الشرفاء، ويحتمون بثياب الأتقياء، ويحتكرون الحديث عن الوطن والوطنية وهم منها بُرآء . صحيح أنه يوجد في الوطن اليماني هيئات ومسميات رسمية لمكافحة الفساد، مثل “الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة” و”الهيئة العليا لمكافحة الفساد”، ولكن من المؤسف أنها بمثابة أصداف خاوية لا تؤدي دوراً رقابياً يذكر، فهي أقرب إلى المبنى من دون المعنى، وإلى الشكل من دون الجوهر والوظيفة . رغم مقولة إن الفساد ظاهرة عالمية فإنه في اليمن استنفد وظيفته ولم يعد يحقق استقراراً سياسياً ومجتمعياً، بمعيار مفهوم “اللزومية الوظيفية” الذي نرفضه (اللزومية الوظيفية مفهوم في التحليل السياسي، يرى أن الفساد يساهم في تحقيق الاستقرار) . فلم يعد إفساد الذمم مجدياً ولا وظيفياً . كما أن مقولة “سيف المعز وذهبه” استنفدت وظيفتها في الواقع السياسي اليمني، فالسيف غدا عاجزاً عن الحفاظ على وحدة الوطن اليمني، أما الذهب فقد استقر في جيوب حفنة من المتملقين، الذين يجيدون الحديث عن المنجزات الوهمية . كما أن محاولة زرع ثقافة التعايش مع الأوضاع رغم سوئها والهروب الرسمي نحو الأسوأ لتبرير استمرار السيئ لم تعد ممكنة . ختاماً: يا تُرى هل يتوقف العقل السياسي اليمني عن نحت النصوص وتكبيلها، والانتقال إلى غرس ثقافة محاسبة اللصوص وعقابهم لا محاباتهم وتكريمهم . إن المعني بالإجابة هنا، قادة الرأي والقوى السياسية والمجتمعية اليمنية، التي تنشد حاضراً مُسيجاً بحياة تسودها العدالة والعزة والكرامة في وطن يمني خال من الفساد والاستبداد معاً، بل إننا على شعبنا اليمني بعد الله نُعوّل . span style=\"color: #333399\"*دار الخليج