ما أروع قضية الجنوب حين بدأت بالتصالح والتسامح وطي صفحات الماضي البغيض حتى ولو كان المتسامحون والمتصالحين هم أنفسهم من سفك الدماء وأزهق الأرواح "أما الضحايا لا بواكي لهم " ولكنها ِكانت تبشر حينها ببداية عهد جديد يقبل فيه الجنوبي بأخيه الجنوبي ويحترم كل واحدا الآخر, وفي شدة هذا الحماس ردد المتظاهرون القسم الجنوبي " دم الجنوبي على الجنوبي حرام.. إلى نهايته" اقتباسًا من حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
و كنا نأمل أن هذا العمل سيتوج لمرحلة جديدة لتحقيق العدالة والمساواة وانتزاع الحريات والحقوق من يد الجلاد وتدشين مراحلها الأولى من ميادين الحرية من خلال المطالبة بالحقوق المسلوبة لجيل جنوبي محترف لاقى من الإقصاء والتهميش ما لاقى, وعانى الأمرين من حكم أسري عائلي متسلط نهب الثروة وصادر الأراضي وطمس الهوية, وأخفى المعالم, وأحرق كل وردة جميلة, ولوث كل نسمة عليلة, وشوه كل صورة جميلة, وقضى على أحلام الطفولة وتطلعات الشباب واستراحة الكهول, وعاث في الأرض فسادًا, وحول البلاد إلى ضيعة له يتصرف فيها كيف يشاء ويلهو فيها كيفما أراد.
وبدأت الكيانات تتعد وتتكاثر ولا يمر شهر حتى نسمع بميلاد كيان جديد, أو بالأصح انشقاق جديد, وكل كيان يشتم الآخر ويتهم الآخر بالعمالة والخيانة, وأنه ضد مصلحة الجنوب وأبنائه ورفعت صور الزعماء من قبل شعب عاطفي طيب يبحث عن الخلاص مما لحق به, كأول ثورة من ثورات الربيع العربي, تسبح عكس التيار وترفع صور جلاديها علهم أن يأخذوا بأيدي الوطن, في الوقت الذي داست فيه الشعوب العربية على صورة كل ظالم جلاد, وكنا نظن في البداية أن هذه ظاهرة صحية في بيئة قررت أن تقبل بالآخر من خلال التنوع والتنافس على مصلحة الجنوب, ولكننا للأسف الشديد نصاب بخيبة أمل عندما نسمع ونرى أن الجنوب قد تحول من وطن كبير يتسع لكل أبنائه الذين شُردوا في الشتات منذُ بداية الأربعينات والخمسينات وحتى حرب صيف 1994م, وحلموا بعيش كريم في هذا الوطن الذي تحول إلى ملك لأشخاص وهو بذلك يصغر يومًا بعد يوم, ليصير أصغر من عقلية بعض الساسة الذين ابتلينا بهم في الجنوب؛ من خلال مرحلتين من مراحل حياتهم السياسية وهي مرحلة الطيش السياسي عندما تسلموا وطن وعاثوا فيه فساداً بعد خروج المستعمر البريطاني ومرحلة الخرف السياسي الذي يتعاملون به اليوم .
أيها الساسة الجنوبيون إذا لم تقبلوا ببعضكم اليوم وأنتم مشردون فمتى ستقبلون؟ أن الآلام قد زادت والأوجاع والأمراض قد أنهكت الجسم الجنوبي, ولا مفر من توحيد الكلمة والهدف ولا داعي للبيانات التي تكشف المستور وتبعث في نفس اللواعج والأسى, ولتعلموا أن شعب الجنوب شعب طيب؛ لأنه قبل بكم أن تعودوا مرة أخرى لتقودوه بعد أن فشلتم وخذلتموه, فلا تخذلوه مرة أخرى .