منعتني العديد من الالتزامات العاجلة من استكمال مقالة كنت قد بدأتها عن الوضع المصري المشحون بالانقسام والتوتر قبيل عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وهو ما دفعني إلى التراجع عن استكمال المقالة بعد إن جرى ما جرى خلال الأربعة وعشرين ساعة الفائتة، ذلك إن أي حديث عن الحالة المصرية ينبغي أن ينطلق من اللحظة الراهنة بعيد عزل الرئيس وتجميد العمل بالدستور، وتسليم دفة الأمور للمحكمة الدستورية التي ستتولى تشكيل حكومة (كفاءات وطنية) غير حزبية تتولى الإعداد للدستور الجديد ولانتخابات رئاسية وبرلمانية في ضوئه كما ورد في بيان وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية عبد الفتاح السيسي. تنطوي الحالة المصرية على مجموعة من المفارقات والتعقيدات التي يمكن من خلال فهمها أو محاولة مقاربتها التكهن بما يمكن أن تئول إليه الأحداث في مصر. ولعل هناك جملة من الحقائق التي تتصدر الحالة المصرية لا بد من الإقرار بها ونحن نقرأ الأحداث الأخيرة ونتكهن بمساراتها اللاحقة لعل أهمها: 1. إن الرئيس مرسي هو أول رئيس مصري مدني منتخب، ومهما كانت نسبة الأصوات التي حصل عليها فقد حاز على أكثر مما حازه جورج بوش الإبن في دورة انتخابه الثانية، وأكثر من كثير من رؤساء الدول الديمقراطية وهو ما يجعل حديثه عن الشرعية حديث ذا وجاهة، والمفارقة هنا أنه أول رئيس يطاح به بقرار عسكري رغم أنه منتخب من قبل غالبية الشعب المصري. 2. مرت سنة منذ انتخاب مرسي لم ينجح فيها في تقديم حكومة تكنوقراطية تقوم على برنامج سياسي وطني عريض يستوعب تطلعات كافة الفرقاء السياسيين في مصر، وظل الرئيس وحكومته حريصين على التعبير عن نكهة سياسية واحدة اعتبروها المعبر الوحيد عن الشعب المصري، بينما ظلت بقية القوى السياسية والمساهمة في ثورة 25 يناير مستبعدة من أي شراكة سياسية ومستفزة من قبل بعض الأجهزة الحكومية والتنفيذية. 3. للأسف الشديد فشل الإخوان المسلمون في تقديم أنفسهم على إنهم قوة حداثية تستوعب موجبات الديمقراطية في مرحلة الانتقال التي تقتضي الانفتاح على كل الألوان السياسية (باستثناء من ارتبط بالنظام السابق)، وفضلا عن التجييش على الوظائف الحكومية بالشكل الذي أسماه بعض المعارضين ب"أخونة الدولة"، هناك إشكالية الدستور الذي اكتفى الإخوان وأنصارهم بموافقتهم عليه، ولو قيل إنه تم الاستفتاء عليه فإن المصوتين عليه ليسوا أكثر من 32% من الناخبين المصرين ليس بسبب التصويت ضده بل بسبب عدم المشاركة الشعبية أتناء الاستفتاء، ولو تمتع الإخوان بقدر من الانفتاح والذكاء السياسي لحرصوا على صياغة دستور يعبر عن كل المصريين وهو كان أمرا ممكنا لو إنهم تريثوا قليلا واستمعوا إلى أصوات معارضيهم من قوى التغيير. 4. فوت الرئيس مرسي على نفسه وعلى حزبه وجماعته إمكانية خلق شراكة حقيقية مع قوى الثورة المصرية من خلال إشراك القوى السياسية المختلفة، في الحكومة وفي مؤسسة الرئاسة، وقد كان بإمكان الرئيس وحزب الحرية والعدالة أن يسندو منصب نائب رئيس الجمهورية بل ورئيس الوزراء وبعض الوزارات لشركاء ثورة 25 يناير، لكن عدم حصول ذلك حول جماعة الإخوان وحزبها والرئيس مرسي إلى مسئولين عن كل أخطاء المرحلة (التي قد لا يكونون مسئولين عنها كلها) واستعداء الشركاء السياسيين وتعميق الانقسام في صف قوى الثورة، وإيصال البلاد إلى ما وصلت إليه. 5. هذه النزعة الانفرادية بحجة الأغلبية خلقت أجواء من عدم الثقة لدى الكثير من القوى الوطنية الشريفة، من ناصريين واشتراكيين وليبراليين وغيرهم، وتحول الجميع إلى معارضين لسياسة الإخوان قلقا على المستقبل السياسي لمصر ورفضا لحالة الانفراد الذي مارستها القوى الإسلامية، وفي طليعتها الإخوان المسلمون. 6. طوال فترة حكم مرسي القصيرة كان الرجل يعمل بهمة الرئيس المنتخب والمسئول عن البلد وربما المخلص والنزيه، لكنه لم يقدم للمعارضة المصرية ما يجعلها تشعر بأنها شريكة في صناعة المستقبل المصري، وحينما اشتدت الأزمة، وفي خطابه الإخير توقع الكثيرون أن يعلن الرئيس مرسي إقالة الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية يمكن إسناد رئاستها إلى أحد قادة المعارضة، أو تشكيل لجنة حوار وطني تتشارك فيها كل القوى السياسية، مع الإخوان المسلمين وبقية القوى الإسلامية، بيد إنه اكتفى بالتأكيد على الشرعية وصندوق الاقتراع( وهي حجج قد تكون سليمة) لكنها لا تكفي لتنفيس غضب الشارع وامتصاص حالة الاحتقان التي وصلت إليها الأزمة المصرية. 7. لا يمكن القول أن الانقسام في المجتمع المصري كان مجرد انقسام بين قوى إسلامية حاكمة ومعارضة سياسية ليبرالية وعلمانية، بل لا بد من الإقرار بأن أنصار النظام السابق قد شقوا طريقهم إلى صفوف المعارضة وساهموا بأموالهم وخبراتهم (الإمنية والمخابراتية) ومهاراتهم في صناعة الدسائس ودق الأسافين، ساهموا في توسيع الشرخ الوطني وتعميق الهوة بين القوى الإسلامية وبقية القوى السياسية المصرية. 8. ستستبشر القوى الرافضة للتغير في مصر وخارجة ممن انزعجوا من نتائج ما أسمي ب"الربيع العربي" وهم يرون الثورة المصرية تئول إلى حالة من الاضطراب والانقسام الوطني تنتهي بحسم عسكري قد لا يؤدي بالضرورة إلى نهاية الأزمة، وستصور القوى التقليدية العربية الثورات العربية على إنها لا تقدم للشعوب إلا الأزمات والاضطرابات والانقسامات وتراجع الخدمات وارتفاع الأسعار واتساع دائرة الفقر والبطالة، رغم أن كل ذلك ليس سوى نتائج السياسسات السابقة للثورات، والتي لم يتمكن النظام الجديد من سرعة معالجتها وهي حالة متكررة في معظم بلد\ان الربيع العربي، كل ذلك قد يؤدي إلى الخيبة لدى العديد من الشعوب العربية المتطلعة للتغيير والحرية والديمقراطية والتنمية في عالمنا العربي المغلوب على أمره. 9. ليس مهما إن كان ما جرى اليوم (3/7/2013م) في مصر انقلابا عسكريا أم لا، لكن ما لا يمكن إنكاره أن ما جرى هو عملية تراجع للممارسة الديمقراطية في مصر وخيبة أمل لكل القوى التي تنشد التغيير وتتطلع إلى مستقبل اكثر حرية وتنمية وديمقراطية واحتراما للحقوق السياسية والمدنية للناس، ولربما فتح هذ شهية الكثير من العسكريين في بعض البلدان للقيام بنفس الدور والاحتيال على الشعوب بحجة فشل الثورة أو عجز القيادة أو انتشار الفوضى والانفلات، ما قد يقود إلى عودة حكم العسكر وإن بحجة "حماية الثورات" و"الحفاظ على الشرعية"، علما بإنه ليس كل الجيوش العربية كالجيش المصري ولا كل المحاكم العربية كالقضاء المصري. 10. وبغض النظر عن نجاح أو فشل الرئيس مرسي وحركة الإخوان المسلمين في مصر خلال السنتين الماضيتين فإن ما أقدمت عليه قيادة القوات المسلحة المصرية يوم 3/7 سيظل يقدم الإخوان المسلمين على إنهم ضحية اضطهاد سياسي وعسكري، حصلوا على الأغلبية في انتخابات حرة ونزيهة انتزعت منهم هذه الأغلبية بقوة المؤسسة العسكرية وبالحشد الشعبي ضدهم، وربما أدى ذلك إلى تنامي قوتهم في المستقبل أكثر مما هي عليه اليوم إذا ما أجادوا توظيف هذه الحالة سياسيا في المنافسات السياسية القادمة. إن هذه المعطيات تفتح الساحة المصرية أمام احتمالات عديدة مختلفة وربما متباينة لعل أهمها: . الاحتمال الأرجح وهو نجاح الحكومة الانتقالية التي تحدث عنها بيان القيادة العسكرية في تسيير دفة الأمور حتى انتخاب برلمان جديد ورئيس جديد، وفي ضوء ذلك قد يعود الإخوان إلى ممارسة دور سياسي فعال، قد لا يكون مساويا تماما لدورهم خلال السنتين الماضيتين لكن قوتهم وحضورهم الميداني لا يمكن إنكاره أو الاستهانة به، مهما كانت أخطاؤهم أو مواقف القوى السياسية منهم. . لربما تعرض الإخوان المسلمون لإجراءات تضييقية أو قمعية ( بعد أن اتضح إن الأجهزة العسكرية والأمنية هي من أغلق القنوات الفضائية التابعة للحركات الإسلامية، وبعد حملة الاعتقالات التي تعرض لها قيادات ونشطاء الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة بعيد صدرو بيان عزل مرسي) وهذا قد يؤدي إلى تقلص دور الحركة الإسلامية لكنه قد يخلق بيئة أخرى لعودة العنف والجنوح نجو التطرف وتنامي الاضطرابات الأمنية والسياسية وما قد يؤدي إليه ذلك من عدم استقرار وما له من نتائج سلبية على مجمل العملية السياسية وعلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية المصرية عموما. . إن حسم الأمر عبر الجيش وإقالة الرئيس المنتخب وإن أسهم في تهدئة الوضع، لكنه قد يرسي تقليدا خطيرا وهو التمرد على كل رئيس منتخب، يمكن أن يقوم به الغاضبين من الرئيس وهو أمر يمكن أن يتكرر مع أي رئيس قادم يمكن أن يواجه ما واجهه الرئيس مرسي من صعوبات أو يقع في ما وقع فيه من نواقص وأخطاء، وهو ما يعني أن مصر مرشحة لعدم الاستقرار لسنوات طويلة قادمة. لا يمكن القول بأن ما جرى في مصر هو نهاية الأزمة وبداية الاستقرار وعودة الحياة الطبيعية المصرية إلى مسارها فالتحديات القادمة أكثر تعقيدا وأكبر حجما من أن تحسم بيان عسكري أو حتى تشكيل حكومة كفاءات وطنية أو حكم البلد من قبل رئيس المحكمة الدستورية، لكن الأيام القادمة كفيلة بالإجابة على الكثير من الأسئلة والتكهنات المتصلة بالمشهد السياسي المصري المشحون بالاضطراب والتداخل والاهتزاز. برقيات: * حملة الاعتقالات التي يتعرض لها قادة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة يثير الكثير من القلق، إزاء مصير الحريات العامة والحقوق السياسية في مصر، فليس بالضرورة أن كل من خرج من الحكم أو أخرج منه بالقوة أن يكون مصيره السجن، إلا من تورط في جرائم ينبغي الإعلان عنها ونقلها للقضاء ليتولى إدانة أو تبرئة المتهمين فيها. * ما ينطبق على حملة الاعتقالات ينطبق على إغلاق القنوات الفضائية المناصرة للحركة الإسلامية بما في ذلك قناة الجزيرة مباشر مصر ومكتب الجزيرة الإخبارية في القاهرة، إذ أن معالجة الأزمة (وهي حالة باينة للجميع) لا يمكن أن يتأتى من خلال التضييق على الحريات، وإخراس الأصوات المعترضة على الطريقة التي تمت بها معالجة الأزمة. * قال الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: الدَّهْرُ أَدَّبَنِي واليَأْسُ أَغْنَانِي والقوت أقنعني والصبر رباني وأَحْكَمَتْنِي مِنَ الأَيَّامِ تَجْرِبَة ٌ حَتَّى نَهَيْتُ الَّذي قَدْ كانَ يَنْهانِي