كثيرة هي الفواجع التي نواجهها في مسارنا الحضاري القومي وعلى المسارح العربية، لكن أسوأها على الإطلاق تلك التي تأتينا من خلال مواقف بعض النخب السياسية العربية الذين تتحفنا بهم بعض الفضائيات العربية في برامجها وتستضيف بعض المحسوبين على العرب والعروبة والإسلام، أولئك الذين يثقون بكل ما يصدر عن (أمريكا) أكثر مما يثقوا بكل ما صدر عن الله سبحانه وتعالى وما صدر عن حكماء الأمة وما سنته المسارات والحقب التاريخية العربية من حقائق راسخة لا تقبل المساس والانتقاص والمزايدة عليها، والمؤسف أن نجد هؤلاء وفي سياق تأكيد مواقفهم الشاذة والغير منطقية أو الغير ممكنة الاستيعاب يحاولون خلط كل الظواهر والسلبيات وحشد كل المعطيات بما فيها تلك التي محل إجماع الأمة بسلبياتها، ومع هذا يتمسك هؤلاء القلة من مدعيي التحضر والتقدم والليبرالية والديمقراطية والانفتاح على توظيف الظواهر وخلطها بحثا عن كل ما يدين الحقائق الحضارية والتاريخية التي تؤكد واحدية المسار القومي والمصير الحضاري للأمة العربية .. قد تكون في هذا قضايا الرأي المثارة والتي هي محل جدل في الوسط النخبوي العربي، من الظواهر المعبرة عن هشاشة الراهن وانحطاط قيمه وعلى كافة المستويات والمجالات والمناحي، لكن ثمة حقائق تاريخية لا تقبل الجدل وحين تصبح هذه الحقائق هي عنوان الجدل وحين يستشهد أطراف الخصام بهذه الظاهرة الفردية أو تلك دون قراءة واعية للتداعيات، ودون التفريق بين السلوكيات والممارسات الفردية وبين حقائق التاريخ والجغرافية والمصير، حين يحدث هذا تصبح هذه النخب جزءاً من آلية الهدم الممنهج للوعي والقيم والحقائق والتراكمات الحضارية التي تشكل هوية الأمة وثقافتها وهويتها الوطنية والقومية .. وللفواجع في واقعنا العربي درجات ومراتب لكن أكثرها بشاعة تلك التي تأتي عبر برامج فضائية تحمل قدراً من الجدية والانتباه وتلفت الأنظار إليها، فتكون الفاجعة حين ترى من يقف ندا لكل حقائق التاريخ والجغرافية والهوية والوعي والانتماء، ومن هؤلاء من يحاول لي عنق الحقيقة مستنداً على هفوة ذاك وغلطة هذا وفعل سياسي فردي وموقف فردي أيضا، لكن من يتخذ كل هذه المواقف والتصرفات السلبية العابرة دليلاً دامغاً لإدانة الأمة بكل حقائقها الوجودية والسيادية، يقدم بالمقابل بديلاً أقل ما يمكن وصفه بأنه ( الغباء، والخطيئة ) ..!! لقد فهم بعض المثقفين العرب للأسف -مع أن الوصف كثيرا عليهم- أن التقدم والتحضر والتطور مكونات حضارية لا يمكن التوصل إليها إلا في أتباع المنهج الأميركي والأخذ بالثقافة الأميركية وبكل ما يصدر عن -واشنطن- وتريده - واشنطن- يجب التسليم به، ومن هذا مفهوم (أن المقاومة إرهاب) وأن (الإسلام ثقافة وقيمة) سبب تخلف العرب وتخلف حضارتهم ..!! ويواصل هؤلاء الطرح التقدمي الليبرالي فيقولون (أن القومية العربية خطاب فضفاض وقد سقط هذا الخطاب، وسقطت القومية العربية فكراً وهوية بدخول العراق للكويت) ..!! وأن (فلسطين ليست قضية العرب الأولى) وأن (تخلف الأمة هو بسبب غياب الديمقراطية والحرية ووجود الأنظمة القمعية الراهنة الواجب إسقاطها وعلى ذات الطريقة التي سقط فيها النظام والدولة في العراق ) ..!! والخلاصة أننا نواجه والأمة طابوراً من هؤلاء الرموز النخبوية يمارسون ما يمكن تسميته بثقافة وسياسة (جلد الذات) والتنكيل بالأمة تاريخاً وعقيدة وقيم وهوية وثقافة وانتماء وجغرافية، بل ويستشهد هؤلاء خلال مناظراتهم المباشرة بكل رموز النهضة الأوروبية من الأدباء والكتاب والنشطاء الذين أبدعوا في خدمة وتطور واقعهم الذي كان وحتى نصف قرن مضى يفوق تخلف واقعنا القومي الراهن إن جاز التعبير واعتبرنا ما نحن فيه تخلفاً وليس فعلاً مقصوداً وموجهاً ويأتي في سياق نظرية المؤامرة التي أؤمن بها وبوجودها في واقعنا القطري والقومي ووقوفها خلف ظاهرة أو كارثة أو أزمة نواجهها على الصعيدين القطري والقومي ..!! وفي هذا سأترك الخوض في التفاصيل التي تحرك أصحاب هذا الخطاب الانتقامي القاصر الذي يشكك بكل شيء في هذه الأمة من التاريخ إلى الهوية والانتماء والعقيدة والقيم الثقافية والحضارية، ومن ثم يضع هؤلاء البديل في الأخذ من ثقافة الأخر الحضاري ...؟ كان يمكن قبول رؤى هؤلاء والخوض فيها وفي مضمونها لو أن هذه الرؤى جاءت حصيلة اجتهادات فكرية مستنبطة من الحاجة الوطنية والقومية، لكن هؤلاء لم يتعبوا كما يبدو من الأوضاع الراهنة ولم يكلفوا أنفسهم البحث عن حلول ورؤى لحلول تمكنا من ملامسة طريق التقدم والتنمية الحضارية الشاملة، ولكنهم وبكل سهولة راحوا يوجهون الناس نحو رؤى الآخر الحضاري وقيمه، ناسفين بهذا كل ثوابت الأمة وقوانين التطور والصراع الذي بسببه وصلنا إلى هذا المنعطف التاريخي من المسار، وهو حافل بكثير من القصور والأخطاء والخطايا ولكن كل هذه الحقائق لا تبرر الأخذ بما لدى الآخر، ولا يمكن التصديق بأطروحات عابرة تساق بهدف إحقاق سيطرة محاور النفوذ على مقدرات الأمة ومصيرها، على إيقاع القول بأن (السلام ) سوف يأتي وأن التنمية الوطنية والقومية سوف تعم وتتحقق ببركة (البنك والصندوق الدوليين) وأن التطور الاجتماعي سيأتي من خلال ( دعم ومساعدة المانحين، والمنظمات الدولية الغير حكومية) ..؟؟ إن أي شعب وأي أمة لا يمكنهما التقدم والتطور وتحقيق أهدافهما الحضارية من خلال الاعتماد على تجارب الآخر ودعمه ومساندته، لأن هذا الآخر ربما يقدم لك كل عوامل الاستقرار والتقدم ولكن شريطة أن يفصل لك قوانين التطور والتقدم والاستقرار ويحدد لك مسارك الوطني ويضع لنفسه حق التحكم والسيطرة والإدارة .. إن مثل هذه -الفواجع- حين تأتي من رموز نخبوية تمثل كارثة على الوعي ومن يمارسون مثل هذه السلوكيات هم أشد خطراً من الغزاة المتربصين ..!! وحين يكون الإفلاس الثقافي والفكري والغباء السياسي عنواناً وهوية لهؤلاء فإن أطروحاتهم القاصرة تزداد قصوراً وتخلفاً حين يحاولون منحها صفة القدسية ويجعلون منها الحل الوحيد لكل معضلات الأمة وأزماتها، هنا تصبح المناطقية حق والعنصرية والطائفية والمذهبية والعرقية والمشاعية الاجتماعية ولكل عوامل وظواهر تمزيق المجتمعات أي تمزيق الممزق يصبح كل هذا بنظر هؤلاء فعل طبيعي وحق مشروع لكل راغب في ممارسته، بل تصبح (الخيانة) مع هؤلاء فعل لا غبار عليه وكل هذا يحدث باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهو ما لا يحدث حتى في أميركا التي ترعى مثل هذه الثقافة وتشجعها وتتبني رموزها وطوابيرها لكنها لا تسمح بمثلها في أوساط شعبها ..!! للموضوع بقية.