يمثل الحوار و الأخذ و العطاء في الكلام جانباً مهماً في التواصل الاجتماعي ، وضماناً للعلاقات الإنسانية، و عاملاً جوهرياً في ترابط النسيج الاجتماعي مما يعزز جو يسوده التفاهم و الود و الاحترام. و من صلب التعايش الاجتماعي قيمة احترام الأخر و تقبله. و الأصل في المجتمع المدني اختلاف وجهات نظر أفراده و تقييمهم لما يدور حولهم، و ليس اتفاقهم حولها، نظرا لاختلاف الأساليب التربوية و الخلفيات الاجتماعية و المستويات التعليمية و الانتماءات السياسية، فهذه سنة الله في خلقه، و كما قال تعالى (و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا). لكن من المؤسف، و مع إدراك هذه الاختلافات، إننا في معظم الأحيان في حواراتنا نصادر آراء الآخرين و نهمشها، و حبذا لو اقتصر الأمر على ذلك و إنما نشكك فيها، و نقدح بصاحبها لينتهي الأمر إلى معركة شخصية قد تحول العلاقة بين المتحاورين إلى مجرد ذكرى، و يخرج فيها الطرفان خاسرين، فالذي صودر رأيه خرج مهزوماً، و الذي انتصر لرأيه خرج خاسراً أيضا لأنه خسر صديقه. و أصبح الاختلاف في الرأي يفسد للود كل قضية. و إذا نظرنا للأمر من زاوية أخرى، فان الحوار ليس غاية بحد ذاتها حتى يحاول المتحدثون جاهدين الانتصار و تغليب آرائهم، و إنما هي وسيلة لفهم الآخر، و إثراء الفكرة، و رؤية القضية من بعد آخر، لأنه إذا انتصرت لرأيك وحدك أو فقط من اتفق معك ، فأنت تحول عقلك إلى بحيرة مياه راكدة لا تتحرك و لا تتجدد. وقد أثبتت الدراسات العلمية انه عند سماعك لآراء الآخرين المختلفة عنك و الأخذ بمشورتهم، فأنت تساعد دماغك بالتفكير في المسألة من عدة زوايا و من ثم الوصول إلى الحل أو الرؤية الصائبة. و لنا في الإمام الشافعي قدوة عندما قال" ما حاججت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه" . قمة الرقي في الحوار، تخيل انك تناقش و تحاور شخصاً و أنت تتمنى أن يغلبك بحجته، لان منطق الحوار هو التعلم من الآخرين و الاستفادة من تجاربهم، لا الخروج بطلا عليهم. لكن ما نراه الآن و ما نعيشه هو احتكار الآراء و "البلطجة " على آراء الآخرين و تسفيهها إلا من رحم الله. نعيش الآن بعقليات تقصي الآخر، وهذه مشكلة تبدأ من التسلط الأبوي في الأسرة لتنتهي بالتصلب و القمع السياسي في الدولة. فالأصل واحد، كم من الأسر تسمح لأبنائها بالتعبير عن آرائهم بحرية ، و كم من الأمهات أو الآباء الذين فعلا يغرسون في أبنائهم احترام الآخر و التعايش معه؟ أصبح المبدأ هو إذا لم تكن معي فأنت ضدي. وهذا ما كرسته للأسف مناهجنا الدراسية و إعلامنا الرسمي. المناهج المدرسية عززت فينا هذه العقلية، و في إعلامنا الرسمي هو ما نشاهده الآن في قناة اليمن ، فلا نسمع إلا آراء واحدة بعبارات مختلفة، أما الطرف المخالف فهو خارج الملة و محرض الفتنة. مبدأ التعددية مبدأ إلهي، و قد ضرب لنا الله في القرآن الكريم أروع الأمثلة في عرض الرأي و الرأي الآخر، فاورد ما يقوله المشركون في حقه ( إن الله فقير) و أورد ما نسبه فرعون لنفسه (قال أنا ربكم الأعلى). فهل وصلنا نحن إلى هذه المرحلة من الشجاعة حتى نناقش ما قاله الآخرون في حقنا بأدب و احترام. اعتقد انه لكي نستطيع التعايش مع الآخرين و نقبل الآخرين و يقبلونا و نسمع أصواتهم و يسمعونا، ينبغي علينا التعامل مع القضايا بموضوعية و من دون "شخصنة" ، و عدم تجريح الطرف الآخر مهما اختلفت وجهة نظرهم و ابتعدت عن وجهة نظرنا. و ينبغي أن نضع أنفسنا في مكان الآخر حتى نتفهم الطريقة التي يفكر بها، و أن ندخل أي حوار بعقلية منفتحة, الغرض منها ليست إقامة الحجة و إثبات صواب الرأي ، لكن الاستفادة و التعلم و توسيع الأفق، و نؤمن انه كما من حقنا التعبير عن آرائنا كحق إنساني، فالطرف الآخر يملك نفس ما نملك من حق، حتى لا يفسد الاختلاف للود قضية.