وأنا أقلّب طرفي خلف غيوم القلب, كانت اللحظة تمطر حباً, وكانت بسمة العمر تقف على عتبات المغادرة. هناك.. حيث ذات ذهول, على مرمى أمل, أطفأتْ حلمي الأخير وأشعلتْ رماداً للصمت حين جاءها من ترضى عشرته. تساقطت من الأفق أحرف الوداع فانهمرت معها مفردات الخوف وأٌلقي القبض على آخر الأنفاس في رئة الفرح.. حاولت أن ابحث عن مساعدة, لا أحد سوى الصدى يقاسمني الفاجعة. رفعت سماعة الهاتف علّي أجد صديقتها تلك التي كانت تلجأ إلى حضنها كلما اختلفنا.. فردت عليّ أخرى.. سألتها عن شقيقة الروح.. فأجابت: إنها تكرهك حد التطرف..!! كنت جالساً على حافة جرف عميق فأحسست قلبي ينخلع من مكانه؛ كأنه يهوي في طريقة إلى الارتطام بقاع الجرف. وددت أن اصرخ في وجهها إلا أنني تمالكت نفسي بعدما شعرت بنبرة صوتها الإنتقامية. أخذت نفسا عميقاً كاد يخنقني ثم سألتها بصوت متحشرج: ولكن, لِمَ تكرهني..؟ أجابت: لأنك أنت.. ولأنها صارت له..!! حينها شعرت بيد عملاقة ذات أصابع مكتسية بالصوف انبثقت من أعماق الجرف ومنعت قلبي من السقوط, هزتني قشعريرة قوية جعلتني أسألها بصيغة مباشرة: ألانها صارت له.. كان لزاماً عليها أن تخلع عقد ونيف من الوفاء والطهر والحب..؟ أجابت بتهكم: أرجوك توقف عن الحديث وانكفأ على أوهامك, لا تطلق العنان لحضورك الذي قد يؤذي خارطة ظلها فتسقط بين يديك مضرجة بالتيه, لقد غادرتك عن قناعة حين اصطدمت بقدراتك المكبلة بأغلال العجز, وقلبك المسجون خلف قضبان الأحلام الممنوعة, ويداك المرفوعتان إلى سماء الأمل المُحال, فدعها لعالمها الجديد..!! ضحكتُ بطريقة مؤلمة جعلتني أشعر بالقناع أللآخر للبكاء ثم رميت مسامعها بآخر سؤال في جُعبتي الفارغة إلا منه: أتتحدثين بلسانها, أم أنما تقولينه هو انعكاس حقيقي لحياتك العامرة بالفشل..؟ أدركت أن الأمر أعمق من مجرد مهاتفة لحظية تتغيا السؤال عن الحبيبة فأجابت: بل أنا أتحدثها.. ناقلة إليك مساحة اللاوجود لحضورك على خارطتها المستقبلية..!! كانت قصتي العاطفية أمامي, وأنا اطل عليها من على حافة الجرح/ف. شاهدت نور يعبر الجرف العميق باتجاهي, ويد عملاقة تحمله حتى أوصلته إلى صدري ثم عادت أدراجها دون ضوء. كنت بحاجة إلى أن أهدأ وأن أمسك بخيوط أفكاري, أخذت علبة الماء الباردة الموجودة بجواري وسقيت جوفي, علّ برودته تهدي قلبي المحموم كمّادة رجاء, اعتصمت بالصمت برهة, وهي ما تزال على الهاتف. كدت أصاب بالجنون من شدة ذهولي مما اسمع من كلمات مهينة تحاصرني بها تلك الفتاة المضطربة لولا حدسي الذي جعلني اكتشف أنها تعاني من جراح عاطفية لم تندمل بعد وأن ما تقوله لا يعنيني في شيء خصوصاً واني على يقين أن عشبة القلب, سنبلة الشوق, غيمة الحنان, شمس طفولتي الهاربة لا يمكن لها أن تطارح هذا السقوط العاري, وهي التي أمطرتني بهمسها الحالم وتوجتني باكاليل الشوق والحنين والعشق على مدار عمر وبضع سنين, إلا أن ما قالته صديقتها كان وقعه صاخباً في مسامعي, مما جعلني أسير بخطاي إليّ, فاراً من الظل إلى هجير المواجع, لكني لم أقف في مهب الجرح كثيراً إذ أن العمى العاطفي حجب عني الرؤية والإدراك معاً فأبرمت معاهدة بيني وبيني تدعو إلى الصمود أمام ألأعاصير والنوازل المباغتة. لذلك, عدت مترعاً بالبوح مثقلاً بالجرح أخاطبها: أوتتحدثين عن البسمة أل.. مازالت شهقة ضوئها تسري بأوردتي مذ استباحني طرفها ذات أنين. يا غادة القهر, تطهري من رجس زيفك بندى ضوءها, ولا تلمزي كينونتي الأولى بما لا تستسيغه مداركي, فأنا الذي أسقيتها لحظي منذ أن كانت نبتت خلد, ورسمت من شفق الصباح ظلالها, وغسلت فؤادها بالضوء, وجمعت فيها معادن الدنيا فصارت لؤلؤة الحياة وعقدها الثمين. لا تقولي أنها تكرهني كيما أُغادرها ملسوعاً بجمر شفتيك ونار لسانك, بل جولي بوجهك العابس على مقربة من أوردتها, ثم اسألي عني هناك, فإن لي في كل زاوية مرفأ, وفي كل منحدر ظلال, وفي كل شريان معلق قطعة ضوء, وإن استطعت فتقدمي خطوة شطر قلبها النابض وستجدين الحب الذي صنعته بكلتا يديّ يسبَح منفرداً وهو مشعاً ببهاء الحضور. غير أنك إن حاولت الولوج إلى حيث أنا, ستحترقين, لأن الضوء القادم من أقاصيها أكبر من رؤيتك الغير متجانسة مع الحقيقة, لذلك, عليكِ أن تحلِّقي ببصرك عالياً لحظة بزوغ الفجر ثم أمعني النظر في ذلك الخيط الأبيض من الأسود.. فذاك أنا والليل أنتِ والنهار حبيبتي.! شيء من الصمت يتسرب عبر خيط الهاتف وإشارة خجولة تعلن عن انتهاء المكالمة.