روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : غضبة يمانية أهل اليمن وما أدراك ما أهل اليمن ؟!! إذا غضبوا لايقف في وجههم أحد حتى لو كان الخليفة !! كانوا يقيمون الممالك إن رضوا وإن غضبوا أسقطوها !! والوقائع كثيرة نبدأها بهذه الوقعة العجيبة : فقد تولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة عام 125ه واراد خالد بن عبد الله القسري – سيد اليمن حينها وكبيرها - على البيعة لابنيه الحكم وعثمان فأبى لصغرهما ، فغضب عليه، فقيل له: لا تخالف أمير المؤمنين. فقال: كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته ؟ قالوا: فتقبل شهادة الوليد مع فسقه ! قال: أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس. ففسدت اليمانية عليه وفسدت عليه قضاعة، وهم واليمن أكثر جند أهل الشام، فاتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور الكلبي وابن عمه حبال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة والطفيل بن حارثة والسري بن زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم. وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟ فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق، ثم استقدم يوسف بن عمر من العراق وطلب منه أن يحضر معه الأموال، وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف. فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها، فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد الملك بن محمد، وأشار عليه أن يحمل الرشا إلى وزرائه، ففرق فيهم خمسمائة ألف، وقال له حسان: اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتاباً: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر، وادخل على الوليد والكتاب معك مختوم واشتر منه خالداً، ففعل؛ فأمره الوليد بالعود إلى العراق، واشترى منه خالداً القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه، فأخذه معه في محمل بغير وطاء إلى العراق ووضع في السجن . فقال بعض أهل اليمن شعراً على لسان الوليد يحرض عليه، وقيل: إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد القسري : ألم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلاً كان متصلاً فزالا بلى فالدمع منك إلى انسجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا فدع عنك اذكارك آل سعدىٍ ... فنحن الأكثرون حصىً ومالا ونحن المالكون الناس قسراً ... نسومهم المذلة والنكالا وطئنا الأشعرين بعز قيسٍ ... فيا لك وطأةً لن تستقالا وهذا خالد فينا أسير ... ألا منعوه إن كانوا رجالا عظيمهم وسيدهم قديماً ... جعلنا المخزيات له ظلالا فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوباً أسيراً ... يعالج من سلاسلنا الثقالا وكندة والسكون فما استقاموا ... ولا برحت خيولهم الرحالا بها سمنا البرية كل خسفٍ ... وهدما السهولة والجبالا ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا فما زالوا لنا بلداً عبيداً ... نسومهم المذلة والسفالا فأصبحت الغداة علي تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا إنتشرت القصيدة في البادية والحاضرة وكان وقعها عليهم شديدا لما فيها من تعيير مثل قوله : ألا منعوه إن كانوا رجالا ؟ وزادهم حنقا قوله : فلو كانت قبائل ذات عز !! سنبكي خالداً بمهندات ... قتل خالد بن عبدالله القسري كبير اليمانية في السجن تحت التعذيب فزادت القصيدة السابقة إنتشارا وبدأت الحرب الكلامية التحريضية والمذمرة لليمانية فقال عمران بن هلباء الكلبيّ متوعدا ومجيبا على القصيدة : قفي صدر المطية يا حلالا ... وجذي حبل من قطع الوصالا لم يحزنك أن ذوي يمان ... يرى من حاذ قيلهم جلالا جعلنا للقبائل من نزار ... غداة المرج أياماً طوالا(1) بنا ملك المملك من قريش ... وأودى جدّ من أودى فزالا متى تلق السكون وتلق كلباً ... بعبس تخش من ملك زوالا كذاك المرء ما لم يلف عدلاً يكون عليه منطقه وبالا أعدوا آل حمير إذ دعيتم ... سيوف الهند والأسل النهالا وكل مقلص نهد القصيري ... وذا فودين والقب الجبالا يذرن بكلّ معترك قتيلا ... عليه الطير قد مذل السؤالا لئن عيرتمونا ما فعلنا ... لقد قلتم وجدّكم مقالا لإخوان الأشاعث قتلوهم ... فما وطئوا ولا لاقوا نكالا وأبناء المهلب نحن صلنا ... وقائعهم وما صلتم مصالا وقد كانت جذام على أخيهم ... ولخم يقتلونهم شلالا هربنا أن تساعدكم عليهم ... وقد أخطا مساعدكم وفالا فإن عدتم فإنّ لنا سيوفاً ... صوارم نستجد لها الصقالا سنبكي خالداً بمهندات ... ولا تذهب صنائعه ضلالا ألم يك خالد غيث اليتامى ... إذا حضروا وكنت لهم هزالا! يكفن خالد موتى نزار ... ويثرى حيّهم نشباً ومالا لو أنّ الجائرين عليه كانوا ... بساحة قومه كانوا نكالا ستلقى إن بقيت مسومات ... عوابس لا يزايلن الحلالا فازداد اليمانية على الوليد حنقاً لما روي هذا الشعر وانتشر وهالهم الأمر وماذا سيعملون وقد قتل سيدهم وكبيرهم وتم تعييرهم والسخرية منهم وفوق هذا قد ذمرهم شاعرهم بقوله " سنبكي خالداً بمهندات " ؟!! الجواب غدا إن شاء الله تعالى . الهامش ( 1 ) يشير إلى معركة مرج راهط عام 64ه وكانت بين الضحاك بن قيس الفهري ومعه القيسية النزارية ومروان بن الحكم – جد الوليد - ومعه اليمانية فالشاعر يرد على الوليد الذي أفتخر بعز قيس ويقول له نحن اليمانية من هزم القيسية النزارية وأقام لجدك الملك الذي ورثته وكنا في صفكم نهزم أعدائكم على الدوام وليس القيسية الذين تفتخر بهم . وقد قال مروان بن الحكم - حين بويع له ودعا إلى نفسه - يمدح القبائل اليمنية : لما رأيت الناس صَارُوا حَرْبا ... وَالْمَال لا يُؤْخَذ إلا غَصْبَا دَعَوْت غَساناً لهم وكلبا ... والسكسكيِّينَ رِجَالاً غُلْبَا وَالقَيْن تمشي في الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا * وإن دنت قيس فقل لا قربا وسنعرض بعض وقائع هذه المعركة وأشعارها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى . [email protected]