روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : تشتم أبا بكر وعمر ؟ قال صباح الوزان الكوفي : لقيت بهلولاً يوماً فقال لي : أنت الذي يزعم أهل الكوفة أنك تشتم أبا بكر وعمر ؟ فقلت معاذ الله أن أكون من الجاهلين، قال : إياك يا صباح فإنهما جبلا الإسلام وكهفاه ومصباحا الجنة وحبيبا محمد صلى الله عليه وسلم وضجيعاه وشيخا المهاجرين وسيداهم ثم قال: جعلنا الله من الذين على الأرائك يسمعون كلام الله إذا وفد القوم إلى سيدهم. اليوم مات سرُ العرب مات الأحنف بن قيس بالكوفة، فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سرُ العرب؛ فلما دُفن قامت امرأةٌ على قبره فقالت: لله دَرُّك من مُجَنٍّ في جَننٍ، ومُدْرَج في كَفَن، نسألُ الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفَقْدِك، أن يجعلَ سبيلَ الخيرِ سبيلَك، ودليلَ الرّشد دَليلك، وأن يوسّع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حَشْرِك؛ فواللّه لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عَطُوفاً، ولقد كنت في الحي مُسَوَّداً، وإلى الخليفة مُوفَداً، ولقد كانوا لقولك مستَمِعين، ولرأيك متّبِعين؛ ثم أقبلت على الناس فقالت: ألا إن أولياء الله في بلادِه، شهود على عباده، وإني لقائلةٌ حقّاً، ومثنيةٌ صِدْقاً، وهو أهلٌ لحُسْنِ الثناء، وطيب الثنا، أما والذي كنتَ من أجله في عدَّة، ومن الحياةِ إلى مدَّة، ومن المقدار إلى غاية، ومن الإياب إلى نهاية، الذي رفع عملك، لما قَضَى أجَلَكَ، لقد عِشت حميداً مودوداً، ومُتَّ سعيداً مفقوداً، ثم انصرفت وهي تقول: للهِ دَرُك يا أبا بَحْرِ ... ماذا تغيبَ منكَ في القَبْر؟ لله دَرُّك أيّ حَشْوِ ثرًى ... أصبحتَ من عُرْف ومِن نُكْرِ إنْ كان دهرٌ فيك جرَّ لنا ... حدَثاً به وهَنَتْ قُوَى الصَّبْرِ فلكم يَدٍ أسديتها ويدٍ ... كانَتْ تَرُدُّ جرائرَ الدهرِ ثم انصرَفت فسُئِل عنها، فإذا هي امرأتُه وابنةُ عمه. فقال الناس: ما سمعْنا كلامَ امرأة قطّ أبلغ ولا أصدق منه. أنا من تحسده بنو هاشم حكي أن المأمون انفرد من عسكره فمر بحي من أحياء العرب،فنظر إلى صبي قائم يملا قربة وهو يصيح: يا أبت أدرك فاهاً، فقد غلبني فوهاً لا طاقة لي بفيها. قال فعجب المأمون من فصاحته على صغره فقال للصبي من أنت بارك الله فيك فتسمى له. ثم قال: فمن أنت؟ فقال المأمون : من بني آدم. فقال صدقت فمن أي بني آدم؟ قال: من خيارهم، قال: فأنت من العرب إذاً فمن أيها؟ قال: من خيارهم. قال فمن مضر إذاً فمن أيها؟ قال: من خيارهم. قال: فمن قريش ورب الكعبة فمن أيهم؟ فقلت: من خيارهم. قال: فمن بين هاشم والله فمن أيهم؟ قلت أنا من تحسده بنو هاشم كلهم. قال: فتباعد عني وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال المأمون: فأعجبني والله ذكاؤه فقلت له: أيما أحب إليك مائة دينار معجلة أو عشرة آلاف درهم مؤجلة؟ قال لست أبيع عاجلاً بآجل. فبينا نحن كذلك إذ خرج شيخ ضعيف من البيت فحاولت أخذ الصبي. فقال أنا شيخ فانٍ وله والدة مثلي في الكبر والضعف وما لنا جميعاً سواه فلا تحرمناه فأمرت له بمائة دينار وانصرفت. باهلة هي باهلة بن أعصر وكان العرب يستنكفون من الانتساب إلى باهلة كأنها ليست فيما بينهم من الاشراف حتى قال قائلهم: وما ينفع الاصل من هاشم * إذا كانت النفس من باهلة ولم تلق قبيلة من صوائب سهام الشعراء مثلما لقيت باهلة وغنيّ وقد قيل لبعض العرب: أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي ؟ قال: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة بذلك.وسأل بعض الاعراب رجلا ممن أنت ؟ فقال: من باهلة، فجعل يرثي له قال: وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم. فجعل يقبل يديه ورجليه، فقال: ولم تفعل هذا ؟ فقال: لان الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة . لرجل من باهلة وقال الأمير سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي : خرجت حاجا فملَلْت المحمل، فنزلت أساير القُطرَات، فأتانا أعرابي، فقال لي: يا فتى لمن الجمال بما عليها؟ قلت: لرجل من باهلة، قال: يا الله أن يعطي الله باهليا كل ما أرى، فأعجبني ازدراؤه بهم، ومعي صُرَّة فيها مائة دينار، فرميت بها إليه، فقال: جزاك الله خيراً! وافقت مني حاجة، فقلت: يا أعرابي، أيسرك أن تكون الجمال بما عليها لك وأنت من باهلة؟ قال: لا، قلت: أفيسرك أن تكون من أهل الجنة وأنت باهلي؟ قال: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني من باهلة، فقلت: يا أعرابي، الجمال بما عليها لي وأنا من باهلة، فرمى بالصُّرة إليّ، فقلت: سبحان الله! ذكرت إنها وافقت منك حاجة، قال: ما يسرني أن ألقى الله ولباهليّ عندي يد، فحدثت بها المأمون – الخليفة العباسي ت 218ه - فجعل يتعجب ويقول: ويحك يا سعيد! ما كان أصبرك عليه. باهلي عظيم ومع كل ذلك فقد خرج من هذه القبيلة قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي،- ت 96ه - وهو من سادات الامراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء، والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة، والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقا لا يحصيهم إلا الله تعالى فأسلموا ودانوا لله عز وجل، وفتح من البلاد والاقاليم الكبار والمدن العظام شيئا كثيرا ، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال: كأن أبا حفص قتيبة لم يسر * بجيش إلى جيش ولم يعمل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفا مطهرا وفتوحاته وصلت لحدود الصين ليثبت للدنيا أن الفخر بالفعال وليس بالقرابة والطين !! ولم يجعل من هوان قبيلته حجر عثرة يقطع طريقه إلى المجد والعظمة !! حسنت فيك المدائح وقد بلغ أولاد وأحفاد الفاتح المجاهد قتيبة بن مسلم مبلغا عظيما من الجاه والمال والسلطان وتولوا الولايات وأرتفعوا بفعالهم الحميدة فوق كل قبيلة !! وقد ولي من أولاده وذريته جماعة الامرة في البلدان، فسعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم تولى أرمينية والموصل والسند وطبرستان وسجستان والجزيرة وتوفي سنة سبع عشرة ومائتين ومن ذرية قتيبة عمر بن سعيد بن قتيبة بن مسلم وكان جوادا ممدوحا،من الشعراء لكرمه الذي تغلب به على سادات القبائل العريقة وتحول هجاء الشعراء لباهلة إلى مدح لعمر بن سعيد الباهلي وحين مات رثاه أبو عمرو أشجع بن عمرو السلمي المري نزيل البصرة بمرثية من أحسن المراثي فقال : مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق * ولا مغرب إلا له فيه مادح وما كنت أدري ما فواضل كفه * على الناس حتى غيبته الصفائح (1) وأصبح في لحد من الارض ضيق * وكانت به حيا تضيق الضحاضح سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض * فحسبك مني ما تجر الجوانح (2) فما أنا من رزئي وإن جل جازع * ولا بسرور بعد موتك فارح كأن لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثي وذكرها * لقد حسنت من قبل فيك المدائح فانظر رعاك الله كيف أجبر قتيبة بت مسلم وذريته الشعراء على مدحهم وذكر فضلهم وكرمهم وفعالهم !! يا ليتني كنت قصارًا! قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت – الخليفة الأموي ت عام 86ه - أمر بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوبًا فقال: يا ليتني كنت قصارًا! يا ليتني كنت قصارًا! مرتين. فقال سعيد بن عبد العزيز: الحمد لله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم. وقال سعيد بن بشير: إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال: وددت أني كنت أكتسب يومًا بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله فذكر ذلك لابن خازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه. طرائف ونوادر 27 قال الأصمعي: رأيت بالبصرة شيخاً له منظر حسن وعليه ثياب فاخرة، وحوله حاشية وهرج، وعنده دخل وخرج، فأردت أن أختبر عقله، فسلمت عليه وقلت: ما كنية سيدنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قال الأصمعي: فضحكت منه وعلمت قلة عقله وكثرة جهله، ولم يدفع ذلك عنه غارة خرجه ودخله. وتقدمت امرأة إلى قاض، فقال لها جامعك شهودك، فسكتت فقال كاتبه: إن القاضي يقول لك جاء شهودك معك، قالت: نعم، هلا قلت مثل ما قال كاتبك كبر سنك وقل عقلك وعظمت لحيتك حتى غطت على لبك ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك. الهامش(1) الصفائح: أحجار عراض يسقف بها القبور. (2) الجوانح الضلوع سميت بذلك لا نحنائها والجنوح: الميل [email protected]