لم تكن لتطل الخيوط الأولى للعام الميلادي الجديد، حتى سبقته سيل التهديدات الإسرائيلية المتواصلة، تتحدث عن اجتياح شامل لقطاع غزة، وتارة عن اجتياحات موضعية مع عودة نشطة لنهج الاغتيالات واستخدام الحوامات في تنفيذها كما كان الحال طوال سنوات مضت، حين كانت قوات الاحتلال تمارس القتل اليومي وتصفية الكوادر السياسية لمختلف القوى والفصائل باستخدام أرقى تكنولوجيا القتل. وبالتهديدات الإسرائيلية إياها والمترافقة مع تشديد الحصار على قطاع غزة كانت عناصر التفجير مهيأة في ساحة فلسطين والمنطقة عموماً، وتمتد على شبكة عميقة من الصدوع التي تهدد بالانفجار الشامل على الرغم من أن العام المنصرم اتسم بهدوء نسبي. ولم تكن خيوط العام الميلادي الجديد لتطل علينا حتى كان الدم الفلسطيني الطاهر والحار ينزف بغزارة على ارض قطاع غزة، حيث لم تستطع المنظومة الرسمية العربية أن تحرك ساكناً من أجل رفع الحصار الظالم عن الفلسطينيين في قطاع غزة وعموم الأرض المحتلة العام عام 1967، بل ولم تستطع إيصال ولو (قارب) صغير إلى شواطئ غزة بينما وصلت قوارب المتضامنين الأجانب تحمل ما تيسر لها من دعم معنوي أولاً ومن دعم إعلامي وسياسي ثانياً. وفي هذا الميدان وجد أولمرت وتسيبي ليفني نفسيهما في خندق الدفاع عن الذات وعن المستقبل السياسي لكل منهما، فاندفعا لتصدير الأزمات الداخلية تحت نيران غارات الطيران الحربي الإسرائيلي والمجازر الدموية البشعة ضد الشعب الفلسطيني، إضافة لمحاولة استمالة الأحزاب التوراتية الصغيرة، ومع أنها أحزاب صغيرة، لكنها فاعلة ومؤثرة بين جمهور المستوطنين. وعليه يمكن أن ندرك المغزى الأخر لأهداف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة،. حيث الدم الفلسطيني الطاهر المسفوح. فقد ماتت الايدولوجيا البشعة «البحتة والصرفة» في الكينونة السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية، وحل مكانها نوعاً مركباً وشديد التعقيد من الأيديولوجيا الأكثر بشاعة، والقائمة على المزج بين الرواية الخرافية وبين تلاوين من عقد المصالح والارتباطات الخارجية التي تستبيح كل شيء ولا تعترف بمنطق المحرمات، مع تحول الدولة العبرية ذاتها إلى بارجة مصالح راسية في المنطقة. إن الأجواء المكفهرة التي خيمت فوق سماء فلسطين وعموم منطقة الشرق الأوسط منذ الحصار الظالم على قطاع غزة، لم تشفع للشعب الفلسطيني، فما زال الحصار الإسرائيلي الجائر يتواصل على قطاع غزة وعموم الأرض الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، وتجويع مليون ونصف مليون إنسان بصمت، حصاراً ظالماً غير مسبوق في التاريخ المعاصر من قبل اعتى آلة دمار في المنطقة، بل وفي العالم،. وفي ظل صمت دولي مريب لم يحرك ساكناً إلى الآن لقطع يد الإجرام الصهيوني المنفلت تجاه الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال. وفي وقت مازال فيه الانقسام الداخلي سيد الموقف في الحالة الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك مازال الانقسام يتعمق بدلاً من أن ينفرج بالرغم من الجهود التي مازالت تبذل من أجل تجديد الحوار الفلسطيني. والعمل من أجل توفير الأجواء المناسبة وتخفيف درجة الاحتقان المتبادل بين حركتي فتح وحماس. ومازاد من «الطين بله» حسب القول الشعبي، أن الوضع العربي الرسمي اليوم في أسوأ أحواله حيث لا توجد رؤية عربية موحدة بشأن الموضوع الفلسطيني الداخلي وحتى بالنسبة لمسألة الحصار المضروب على قطاع غزة، فغدا القاتل الصهيوني أمام العالم خروفاً وديعاً وبدا الفلسطينيون أشراراً لابد من إدامة تطويقهم داخل أسوار غيتو غزة. وغني عن القول أن جريمة الغارات الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة أطاحت بجهود وسطاء التهدئة وأطلقت عليها رصاصات اللارحمة، وما يؤكد وفاة مساعي التهدئة الجديدة إجماع فصائل المقاومة في غزة بالرغم من كل أصوات الوعيد والترهيب التي تطلقها طائرات الاحتلال وجنازير دباباته. وبالتالي فان الدروب لن تقود في هذه الأحوال سوى إلى مزيد من التدهور، واندلاع دوامة العنف من جديد : عنف الاحتلال، والعنف المشروع للشعب المقاوم، وعندها لن يجد قادة إسرائيل سوى الرد الممكن على يد شعب لم يتبق بين يده إلا جسده وحجارة الانتفاضة للدفاع عن نفسه ومن أجل مستقبله الوطني. وفي هذا السياق، ووفاء لشهداء الغارات الأخيرة، علينا أن لا نكابر، ونحن أمام الحدث الجلل ندفن الشهداء، فالشعب الفلسطيني وقواه ليسا أمام عدو من النوع العادي، بل أمام قوة كبيرة مسلحة بتكنولوجيا القمع الفائقة التطور، الأمر الذي يفرض على الطرف الفلسطيني درجة عالية من حسن التصرف. وتحمل أوجاع الجروح النازفة بمزيد من الصبر والإصرار على وحدة الصف والتقاط النفس، والقفز فوق حدود الاختلافات والتباينات مهما علا شأنها أو مقدارها، فمستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، بل ومستقبل المنطقة بأسرها يرتسم على أرض قطاع غزة، والفلسطينيين الآن أمام خيار واحد عنوانه السير نحو الحوار الجاد لإعادة بناء الوحدة الوطنية وتجاوز آثام الانقسام.