دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    المهندس صعتر و جهاد الكلمة    ريال مدريد يثأر من مانشستر سيتي ويتأهل إلى نصف نهائي أبطال أوروبا    مليشيا الحوثي تساند ''القاعدة'' بالطيران المسير.. وإعلان لقوات الانتقالي    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    نعيبُ جمهوريتنا والعيبُ فينا    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    الحوثيون يضربون سمعة "القات" المحلي وإنهيار في اسعاره (تفاصيل)    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    لمن يجهل قيمة الإنتقالي    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    انس جابر تعبر الى ثمن نهائي دورة شتوتغارت الالمانية    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    عن صيام ست من شوال!    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مركز الدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل " منارات " .. أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي ..الحلقة الأولى
نشر في أخبار اليوم يوم 25 - 02 - 2009

لامست محاضرة المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل " منارات " الجرح الذي ينزف على الواقع ويأن منه حيث وأخلاقيات المهنة الطبية شبه غائبة في الوسط الطبي وأتت المحاضرة التي قدمها أستاذ علم الاجتماع فيكلية الآداب - جامعة صنعاء الدكتور عبدا لله معمر تحت عنوان " أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي " لتعرض اساسيات واخلاقيات هذه المهنة الكبيرة والتي يمكن القول عنها أنها مقدسة.
ونظرا لأهمية المحاضرة والموضوع تعمل أخبار اليوم على نشرها في حلقتين لتعم الفائدة.
وكما هو معروف لكل مهنة أخلاقياتها ومن الضروري الالتزام بها من قبل الممارس ولا يكتمل الأداء المهني إلا بها ومن هذه المهن ،الطب ، والطبابة ، الذي تعد في مقدمة المهن التي لها أخلاقيات صارمة منذ الأزل حيث كان التطبيب يقوم على أساس الربط بين المرض والمتغيرات التي تطرأ على الطبيعة وحركة الأجرام السماوية عن طريق الربط بين المرض والعوامل البيئية والطبيعية ومتغيراتها المختلفة وقامت تقاليد ممارسة مهنة الطب لدى العرب أيضاً على مزيج مما توارثه العرب من تقاليدهم العربية الأصيلة ومما نقلوه عن الأمم السابقة.
وقد أشترط أبقراط مبدأ الطهارة والفضيلة في ممارسة مهنة الطب، وهو المبدأ الذي سار عليه الأطباء بعد ذلك.
وتهدف هذه الدراسة للتعرف على الأسس والقواعد الأخلاقية الخاصة بمهنة الطب والعلاج عبر تتبع تاريخ الفكر الإنساني والمبادئ التي أرستها الجماعات والشعوب وكرستها في ثقافتها وقيمها المختلفة.
ويمكننا تحقيق ذلك بالإطلاع على كتب التراث الطبي في كل من اليونان ومصر القديمة، مروراً بعصر الدولة الإسلامية.
إن مبادئ وأخلاقيات الطب والعلاج، ظلت وعلى مدى طويل ثابتة ونهائية وغير قابلة للجدل أو الاجتهاد، أما وسائل التشخيص وطرق العلاج فإنها قابلة للتغيير وعليها أن تعتمد على أسس نظرية جديدة وأن تطور من آلياتها بما يخدم الهدف، أي تحقيق الشفاء من المرض.
أولاً : الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع:
تعد الأخلاق جزءاً من ظواهر وأنساق المجتمع، ولها وظائفها، وضرورتها الاجتماعية في البناء الاجتماعي كما أنها جزءاً من مكونات وترابط هذا البناء.
كما تعد جزءاً من نسق القيم الاجتماعية في مختلف المجتمعات ومراحل تطويرها وارتبطت بمختلف الديانات السماوية أو اللا سماوية إذ مثلت سياج لعملية الترابط الاجتماعي، بل إن الشعوب البدائية اعتبرت الأخلاق مكوناً دينياً محض، وجزءاً من العبادة الإلهية. والتمسك بالقيم الأخلاقية تمسك بالدين كنسق تعبدي جعل من الأخلاق سياج الحماية للأسس التعبدية. ومخالفة القواعد الأخلاقية خروجاً عن الديانة وعصيان للمعبود "الإله" وخروجاً عن الطاعة له.
وقد مثلت الأخلاق جزءا من اهتمامات الفلاسفة والاجتماعيين عبر تاريخ الفكر الإنساني، قديما وحديثا، فمن ابيقراط إلى سقراط وافلاطون، وارسطو، حتى دور كايم، وشوبنهور. . . . وغيرهم. ومن المصرييون الى اليونانيون والاشوريون والبابليون، إلى الدول الإسلامية المختلفة.
ثانياً: أخلاقيات الطب ما قبل ابيقراط
إن الرغبة في الشفاء مدفوعة بوجود ألم، أو عيب ما في المظهر أو في وظيفة من وظائف الجسم يختلف تقديرها باختلاف المراحل التاريخية والثقافات والمجتمعات والأديان.
فمنذ الأزل وجد الألم مصاحباً للإنسان إما نتاج لتفاعله مع الطبيعة، أو نقصاً في الخلق والمكونات البيولوجية، أو لخلل في وظائف أعضاء الجسم ومكوناته، ليمثل خطراً يهدد استمراره ووجوده لصالح الطبيعة نفسها، وإنهاء لعملية صراعه معها. لذلك مثلت الأخطار الموجهة ضد الإنسان موقف عدائي شديد الحساسية له. فالكوارث الطبيعية والحيوانات المفترسة، مثلت نموذجاً خطراً على الإنسان إلى جانب الأمراض التي تعد المقدمات الأولى لحالات الموت والانقطاع عن هذا العالم.
فكان عليه التعامل مع هذه الأخطار وفق مبدأ الدفاع والبحث عن وسائل معينة له من خلال مصدر الشر ذاته، فكان ذلك أما بالاحتماء بالطبيعة نفسها عن طريق البحث عن كهوف تقيه من مصادر الخطر أو بالانتقالات من مكان لآخر بعيداً عن الأخطار أو من خلال التعامل مع ما جادت به الطبيعة نفسها من أعشاب ووسائل للعلاج.
1- مصادر المعارف الطبية:
قد لا نستطيع الجزم في تحديد المصادر الأولى لمعرفة الإنسان بالعلاج، وإن كنا نستطيع تحديد الشعور بالألم، فالشعور بوجود خلل ما في جسم الإنسان أمر طبيعي، وبالتالي فإن مصدر الألم دافع رئيسي للفرد نحو إصلاح هذا الاعتلال.
أ الشعور بالألم :
والشعور بالألم يقود الإنسان إلى التجربة والخطأ في البحث عن مصدر الشفاء. فالفعل الطبي يضع شخصاً ما باعتباره مريضاً أمام شخص آخر مشهود له بالقدرة والمعرفة العلاجية.
ب / الاستحداث بدافع الحاجة:
يرى اتجاه آخر أنه استحدث كأي شيء استحدثه الإنسان لحاجة له به، وهذا الاستحداث كان مع محاولة الإنسان للتجربة والخطأ في درء الألم.
ج السحر عند الكلدانيون:
والاعتقاد الآخر يرى أن الطب استنبط من السحر والأعمال السحرية التي كان يقوم بها الكالدانيون أو أهل اليمن، ومن يرى أن المنبع السري الأول لا يعود للكلدانيون أو اليمنيون وإنما لفارس والهند وبابل.
د- التجريب والتقليد:
أما الاتجاه الرابع فيرى ان الطب وصناعته قامت على الحاجة والتقليد. أي أن الإنسان يحتاج إلى الشفاء من الألم مثله مثل سائر المخلوقات في الكون. فكان عليه تقليد سلوك البعض منها عندما نشعر بألم مشابه له،
2- الإرتباط بين الدين والعلاج :
نظراً لوجود الاعتقاد بالارتباط الرباني بالشفاء، ولوجود مفاهيم أن الإنسان توصل للعلاج نتيجة لحالة الإلهام من الله تعالى، فقد سيطرت فكرة الشفاء من المرض بضرورة وجود وسيط بين المريض وصاحب الشفاء، أو مانح الشفاء كما أن صعوبة التعريف على المرض والعلاج، جعل من هذه المهنة تحظى بأهمية خاصة عند جميع الفئات الاجتماعية، ومن يمارسها منح مكانة راقية داخل المجتمع كونه يتمتع بقدرات لا يتمتع بها الفرد العادي من المجتمع. مما جعلها مهنة محتكرة بين أفراد الطبقات العليا دون سواهم.
وساد اعتقاد لدى شعوب عديدة أن المرض عقاب رباني للإنسان لارتكابه المعاصي أو جراء قيامه بفعل أغضب الرب، ومثل هذا ظل الاعتقاد سائداً إلى اليوم في معتقدات الشعوب وكرست الأديان السماوية مثل هذا الاتجاه في تصورات الأفراد القيمية.
وبصورة عامة فإن الأسس الأخلاقية في ممارسة المهنة الطبية في الدولة الإسلامية كانت تقوم على التالي:
- التقاليد العربية بما تتضمنه من أخلاقيات.
- التقاليد الطبية المنقولة من الحضارات السابقة.
- تحكيم المبادئ الدينية في والقيم الإسلامية في العلاقة بين الأفراد وبعض.
- النظم الخاصة بإدارة الدولة الإسلامية.
- بالإضافة إلى حث الإسلام على العلم وطلبه والسعي إليه.
3- القسم الطبي قبل ابقراط:
منذ وجود الإنسان وجد معه الألم، وبوجود الألم وجدت الحاجة لعلاجه فما كان على الإنسان إلا البحث في الطبيعة من حوله عن وسائل تشفيه من المرض. والاستفادة من الحيوانات والطيور وبمراقبة أساليبها في علاج ألمها وحاول التقليد في علاج ألمه. جرب بعض الأعشاب فأخطأ في بعضها ونجح في بعضها، ومع التكرار عرف الضار من النافع.
وأن أداء اليمين شرط أساسي للحصول على المعلومات أو دراسة الطب، فبدون القسم لا يتعلم الطالب الطب، والذي أوله عدم إفشاء السر الطبي، أو التعاليم الطبية.
ثالثا : من قسم أبيقراط إلى قسم المحتسب
أراد أبقراط توسيع دائرة ممارسة الطب والعلاج بالخروج عن القاعدة التي أرساها اسقليبوس بانحصار المهنة في اسرته. فكان لا بد من وجود ضوابط تنظيمية للمهنة، بحيث تحفظ حقوق الناس وتعيق من الاستخدام المسيء للمهنة من قبل الأطباء، فصاغ ما عُرف بعد ذلك بالقسم الطبي.
أما في عهد الدولة الإسلامية أسند أمر الرقابة للمحتسب فكان من مهامه أخذ العهد على الطبيب والعشاب بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية.
مما تقدم يمكننا الاستنتاج إجمالاً أن أبقراط أول من حدد أخلاقيات الطب بشكل مكتوب وإن كانت موجودة قبله كنظم وتعاليم أخلاقية على الممارس إتباعها والالتزام بها والذي على أساسه تم تحديد الإطار العام لأخلاقيات الطب.
3- قسم المحتسب ودلالاته الاجتماعية والاخلاقية:
إن القسم معيار أخلاقي إرساء مبدأ الرقابة الداخلية وإحياء وازع الضمير أو الرقيب الداخلي عند الطبيب كونه المرافق للطبيب في تحركاته ونشاطه دون غيره.
ويعد قسم أبقراط الطبي من الأهمية الأخلاقية التي تقولبت فيه المهنة على مر العصور والأزمان حتى وقتنا الحاضر.
فالأطباء ملزمون بتوصيل علمهم والخروج من العزلة التي كانت قبل ذلك "انحصار الطب في أسرة استقليبيوس وعلى كل من يحوز على المعرفة الطبية أن يقوم بنقلها إلى الأجيال التالية وفقاً للشروط والاخلاقيات المتعلقة بمهنة الطب.
فالكحالون (مثلا) لا يعطيهم المحتسب الإذن بالعمل، إلا بعد إجراء الامتحان المقرر، والخاص بالعيون، وما يتعلق بها من أمراض، وظواهر، وعقاقير، فإن اجتاز الكحال الامتحان أخذ على نفسه قسماً علنياً بحضرة المحتسب، بأن يعمل بإخلاص وأمانة متبعاً أحدث الوسائل في العلاج، وأجود أنواع العقاقير، والأكحال.
رابعاً : من أخلاقيات الطب في المجتمع الإسلامي
ازدهر الطب في أيام الدولة الإسلامية ووصل لمرحلة لم يسبق لها مثيل في العصور السابقة نظراً للدعم والتشجيع الذي كان يلقاه مختلف الذين يعملون في مجال الفكر والعلم من قبل الأمراء والحكام- والذي لم يقتصر على الجانب الإبداعي فقط بل عمل العديد منهم على تشجيع حركة الترجمة من مختلف اللغات إلى العربية والعكس مما أدى إلى امتزاج الثقافة العربية بمختلف الثقافات الإنسانية مما جعلهم لا يكتفون بالترجمة فقط وبل اكسبتهم خبرة علمية جعلتهم يضيفون عليها إبداعاتهم الخاصة وأهمها:
1- الاحتماء واعتدال الأكل والشرب
2- النظافة والوقاية
3- العلاقة الإيجابية بين الطب والدين
خامساً : التخصص الطبي في الشرق العربي الإسلامي
1- تخصص الأطباء :
عرف قدماء الأطباء المصريين واليونانيين التخصصات الطبية التي كرست عملية الاحتراف الطبي، وظهور فئة من الأطباء المتخصصين.
يشير هيرودوت في كتاباته عن زيارته لمصر أن مصر وطن الأخصائيين وإن كل طبيب فيها يقصر علاجه على نوع واحد من الأمراض ولا يعالج سواه، وقد وجدت بعض الالقاب الخاصة بتخصص بعض الأطباء على قبورهم، وتدل بعض المؤشرات على وجود تخصصات لأطباء في كل من، الولادة، الزكام، الأسنان، الرمد، والبطن، والشرج. . . الخ.
ومثل هذا يعطينا دلالة بأن تعدد وتنوع التخصصات على مكانة المهنة ودقة الضوابط المفروضة عليها، وعلىالطبيب أن يتخذ كل وسيلة تمكنه من معرفة المرض فكان الطبيب يسأل عن تاريخ المرض وكيفية بدايته وشكوى المريض ويستفهم عن نومه وجلوسه ثم يفحصه من رأسه حتى قدميه ويحسه بيديه، ويسأل عن الأمعاء والمعدة والصدر والبطن. . . الخ.
2- تخصص المستشفيات (البيمارستان):
أنشئت البيمارستان في مدن كثيرة من مدن الدولة الإسلامية روعيت فيها التخصصات المختلفة، فقاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة، وأخرى للكحالة وأمراض العيون، والحميات. . . الخ، بل وجدت أقسام خاصة بالرجال وأخرى للنساء كما أن الأطباء كانوا عبارة عن طوائف بحسب التخصص ولكل طائفة أو تخصص رئيس له عليها حكم وهو الذي يأذن لهم بالتطبيب.
3- العلاج والعيادات المتنقلة:
أما العلاج في المستشفيات فقد كان يقدم مجاناً للمواطنين دون مقابل لأن الدولة كانت تتحمل نفقاته، وبالإضافة إلى المحل الثابت "البيمارستان" فقد عرف وجود العيادات المتنقلة والتي كانت تصل للأماكن البعيدة والتي لا يستطيع المريض الوصول بها للبيمارستان ولم يكن يقتصر دور المؤسسة الطبية عند هذا الحد بل كانت المستشفيات تقوم بتزويد المرضى بالماء للاستحمام والغسيل والشرب.
سادساً :الأجر والكلفة الطبية
كانت الحكومة المصرية تدفع مرتبات الأطباء، شهرياً من خزينة الدولة ، ومع ذلك كان يسمح لهم في أخذ أجر إضافي من طالب العلاج سيما الأغنياء منهم أما الفقراء فعلاجهم مجاناً وكان جزءاً من هذه الأتعاب المحصلة يقتطع لصالح المعبد الذي يتلقى فيه الطبيب العلم والمعرفة، ويتضح كل ذلك من خلال الآتي:
1- الدولة والأغنياء يؤمنون حاجة الفقراء:
كان بعض الملوك يتخذون من الأطباء معالجون خصوصيون لهم ويجزلون لهم العطاء، إلا أن البعض منهم من زهد بالمال وفضل الفضيلة على المال كما رآها أبقراط عندما ألح عليه ملك اليونان بالسفر لعلاج ملك الفرس عندما داهم بلاده الوباء فجاء لأبقراط بمائة قنطار من الذهب كمقدم أتعاب إن جاء إلى فارس حتى سلمه إقطاعاً كبيراً من الأرض فما كان ألا أن رد عليه ابقراط ذلك قائلاً " لست أبدل الفضيلة بالمال". وهو الذي كان يسعى دوماً لعلاج الفقراء، ولا يمكث في علاج الأغنياء طويلاً.
2- أوقاف الخدمة للفقراء وتكافؤ الجميع في مستوى تقديمها:
وقد أتبع الأمر ذاته في تقديم الخدمات الصحية والطبية في البيمارستانات الإسلامية والذي كانت تقدم بالمجان أيضاً لكافة الناس ذوي الحاجة إليها. وعند افتتاح السلطان المنصوري للمستشفى المنصوري في القاهرة والتي بنيت عام 1283م أكد أنها لعامة الناس يدخلونه جموعاً ووحداناً شيوخاً وشباباً، وبلغاً وصبياناً، وحرماً، وولدانا، يقيم به المرضى الفقراء، من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين بروئهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة. ويفرق للبعيد والقريب وللأهلي والغريب والقوي والضعيف والدنيء والشريف والسفلى الحقير والغني والفقير والمأمور والأمير والأعمى والأبصر والمفضول والفاضل والمشهور والخامل والرفيع والوضيع والصعلوك والمليك والمملوك من غير اشتراط لعواض من الأعواض، ولا تعريض بإنكار على ذلك ولا إغراض، بل لمحض فضل الله العظيم.
وفي هذا تأكيد على أن صنعة الطب لم تكن مهنة للكسب وتجميع المال بل كانت مهنة إنسانية الهدف منها رسم بسمة أمل على شفاه المرضى فهذا أبو بكر الرازي أمهر أطباء عصره توفي وهو يقتات على حساب أخته بعد أن قسى عليه رجال الحكم واشتد به المرض.
3- أوقاف الطب والأدوية:
أما الأدوية فيذكر ابن أبي أصيبعة أنها كانت تصرف للمرضى مجاناً. في عهد الدولة الإسلامية ويؤيد هذا الرأي ما جاء في وثيقة الوقف للبيمارستان المنصوري. . . إذ تشير الوقفية إلى أن البيمارستان. . . لمداواة مرضى المسلمين الرجال والنساء من الأغنياء المثرين، والفقراء المحتاجين بالقاهرة وضواحيها، من المقيمين بها، والواردين إليها من البلاد والأعمال، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم، وتباين أمراضهم، وأوصابهم من أمراض الأجسام، قلت أو كثرت، اتفقت أو اختلفت، وأمراض الحواس، خفيت أو ظهرت واختلال العقول التي حفظها أعظم المقاصد والأغراض وأول ما يجب الإقبال عليه دون الانحراف عنه والإعراض وغير ذلك مما تدعو حاجة الإنسان إلى إصلاحه، وإصلاحه بالأدوية والعقاقير المتعارفة عند أهل صناعة الطب يدخلونه جموعاً ووحداناً، شيوخاً وشباناً، وبلغاً وصبياناً، وحرماً وولداناً، يقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين بروءهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة، ويفرق للبعيد والقريب. . . والغني والفقير. . . الخ. من غير اشتراط لعوض من الأعواض، ولا تعريض بإنكار على ذلك، ولا اعتراض، بل لمحض فضل الله العظيم.
وفي هذا إشارة واضحة لتحديد الملامح الأخلاقية بالمارستان المنصوري وهذه الملامح لأهميتها سجلت في وقفية البيمارستان حتى تكون ملزمة العمل بها بما لا يجعل المهنة عرضة للانحدار الأخلاقي والقيمي والرغبة الذاتية لممارسة المهنة.
سابعاً
توريث المهنة
إن مهنة الطبابة اكتسبت قيم وأخلاقيات منذ البداية الأولى لنشأة الطب بهدف الحفاظ على أخلاقيات الممارسة المهنية. وحتى لا يلجأ القائمين عليها لاتباع أساليب تؤدي إلى ضرر الإنسان بدلاً من الإفادة منه وكون الطب مهنة رفيعة داخل المجتمع يتمتع صاحبها بمكانة اجتماعية عالية تجعله من الفئات العليا. وأصحاب الحظوة توارثها الأبناء عن الآباء فالمصريون القدماء اتبعوا التلقين الشفوي من الأب إلى الإبن، أو من الأستاذ إلى التلميذ، حرصاً على سريته، ومن تقاليد المهنة الطبية منذ نشأتها بل ولعله قائم حتى الآن، توارث هذه المهنة أباً عن جد مثلها مثل كثير من المهن والصناعات، ولقد استمر هذا التقليد خلال عصور الطب العربي المختلفة، حيث امتازت بعض الأسر بتوارث الطب، ولعل أشهرها أسرة "بختيشوع" التي مارست الطب في الدولة الإسلامية أجيالاً متعاقبة أثناء الخلافة العباسية.
ثامناً
المكانة الاجتماعية الرفيعة لذوي المهنة
إن مهنة الطب والعلاج مهنة أخلاقية بدرجة أولى لذا كان ارتباطها الشديد بفئة اجتماعية معينة من الممارسين عبر العصور كونها تسمو أخلاقياً ومهنياً عن بقية المهن إذ ارتبطت بأصحاب الحكمة والفلاسفة "الحكماء". ومع وجود الأديان ما قبل السماوية كان الكهان وسدنة المعابد هم ممثلوا الرب، أو الوسطاء بين الإنسان صاحب المرض والإله صاحب الشفاء، لذا ظلت حكراً على مجموعة معينة من الأفراد حفاظاً على أخلاقياتها، ولم تكن الأديان السماوية بعيدةً عن الإعجاز الرباني والبرهان الإلهي على صدق الأنبياء والرسل، إلا دليلاً آخر على سمو مهنة الطبابة ليس عند أصحاب المرض وممارسي العلاج، وإنما عند صاحب المرض والشفاء "الله سبحانه وتعالى" لذلك كانت أحد معجزات الأنبياء القدرة على شفاء أصعب الأمراض.
وهي من المهن التي رفعت شأن الأطباء وأعطتهم مكانة اجتماعية عالية داخل المجتمع واحتل الممارسين للمهنة لمراكز عالية في الدولة. ومنهم الكهنة والعرافون، ومقدموا القرابين، والأطباء. الجميع يقومون بعلاج المرضى. إلا أن الأطباء سيما أطباء الملك يشكلون قمة الهرم الاجتماعي التقليدي، والأطباء الأكفاء أكثر تشريفاً ويدفع لهم بسخاء، حيث يتم تبادلهم بين الحكام من مدينة لأخرى كنوع من المجاملة.
وشكل الأطباء جزءاً من النخبة في مجتمع اتسمت فيه الطبقات المختلفة بالتحديد الشديد، حيث يجاورون الكهنة، والقادة العسكريين، أو مسئولي المناجم والزراعة ومخازن الغلال العامة.
وفي عصر الدولة الأموية والعباسية وقرب العديد منهم من الخلفاء والحكام، واستعانوا بهم في التطبيب بعيداً عن الانتماء الديني والسلالي للطبيب. فقد تمتع العديد من الأطباء اليهود والمسيحيين بمكانة عالية داخل الدولة الإسلامية وفي مختلف العصور، ووصل ممارسوا الطب إلى أعلى مراتب الحكم في الدولة "وزراء، رؤساء دواوين، أطباء خصوصيون للملك". وكان للتشجيع الذي لقيه الأطباء من الخلفاء والأمراء أثر بالغ في بروزهم.
تاسعاً شروط ممارسة الطب
1- شخصية الطبيب وسلوكه:
لم تترك المهنة بعد أن فتح أبقراط تعليمها على الشكل بل ووضع أسس لذلك، كان أولها القسم الطبي الذي يحمي المريض من ممارسات الطبيب، كما وضعت شروط من الضروري توفرها في الطبيب هي: أن يكون المنتظم للطب، في جنسه حراً، وفي طبعه جيداً، حديث السن معتدل القامة، متناسب الأعضاء، جيد الفهم، حسن الحديث، صحيح الرأي عند المشورة، عفيفاً شجاعاً، غير محب للفضة، مالكاً لنفسه عند الغضب، ولا يكون تاركاً له في الغاية، ولا يكون بليداً، وأن يكون مشاركاً للعليل مشفقاً عليه، حافظاً للأسرار، محتملاً للشتيمة، فبعض المرضى يتصرفون خارج عن طبيعتهم، وأن يكون حلق رأسه معتدلاً مستوياً، وثيابه بيضاء نقية لينة، ولا يكون في مشيه مستعجلاً، لأن ذلك دليل على الطيش، ولا متباطئاً لأنه يدل على فتور النفس. وإذا دعى إلى المريض فليقعد متربعاً ويختبر منه حاله بسكون وتأنى.
كما وضع شروط لطالب العلم، أو لمن أراد تعلم صناعة الطب أن يكون ذا طبيعة جيدة مواتية، وحرص شديد، ورغبة تامة، وأفضل ذلك كله الطبيعة لأنها إذا كانت مواتية فينبغي أن يقبل على التعلم ولا يضجر لينطبع في فكره ويثمر ثماراً حسنة، فمتى قدمت العناية في صناعة الطب بما ذكرنا، ثم صاروا إلى المدن لم يكونوا أطباء بالإسم بل بالفعل. والعلم بالطب كنز وذخرة فاخرة لمن علمه، مملوء سروراً، سراً وجهراً، والجهل به لمن انتحله صناعة سوء، وذخيرة ردية، عديم السرور، دائم الجزع والتهور. والجزع دليل على الضعف، والتهور دليل على قلة الخبرة بالصنعة.
وأولى منهجيات الطبيب منذ الأزل "إجراء مقابلة طويلة مع المريض، وأن ينظر، ويلمس ويحس جسد المريض وبعدها فقط يمكنه صياغة التشخيص، والتنبؤ بالمستقبل، ثم يصف العلاج الملائم لنوعية المرض".
وقد كان كثير من الأطباء يرون في الفلسفة تهذيباً للطب وإرساء لقيم أخلاقية تزيد من قوته وسمو أخلاقه فأبقراط يؤمن بالفضيلة ويجعلها في مرتبة أحب إليه من المال، لذلك رد المال وسعى لعلاج الفقراء مجاناً وعزف من المكوث لدى الأغنياء فترات أطول مقابل المال.
وتعفف عن الزنا بالرغم من أنه "أحب الزنا" ولكني أملك نفسي". سعياً وراء الفضيلة، وصوناً لمنازل يدخلها لعلاج ساكنيها. وإرساء لقيمة أخلاقية لمهنة الطب. وقسمه الطبي الذي صاغه كله يحافظ على الفضيلة ويلزم الممارس بها منذ بداية طلبه للعلم.
2- الفلاسفة الأطباء والأطباء الفلاسفة:
ورأى ابن سيناء أن في الفلسفة تهذيب لأخلاق الأطباء وتمنحه الحكمة في عمله، وتنظر إليه الفلاسفة على أنه طبيب، ونظر إليه الأطباء كفيلسوف، وأياً كان الأمر فابن سيناء جمع بين كل من الفلسفة والطب، وغيره كثيرون فالأطباء كان فيهم الأطباء الفلاسفة والفلاسفة الأطباء، فالفريق الأول كان همهم التشخيص والعلاج، والتفريق بين الأمراض المتشابهة، وحسن تدبير المرض، وتجنب الأخطاء، ويتلمسون في ذلك عن طريق التفكير المنظم، بينما الفلاسفة الأطباء يسعون لتنسيق الحقائق واستقامة المنطق، وربط الأسباب بالمسببات، وصدق التقسيم والتبويب، ووضوح ذلك كله، يؤكدون أمور قد لا يغني بها الطبيب في عمله حين يرون ذلك ضرورياً للعرض المنطقي.
أ - 3- شروط مزاولة المهنة والرقابة عليها:
في 684ه (1283) افتتح البيمارستان المنصوري في القاهرة فأصدر السلطان المنصوري قلاوون مرسوماً بتقليد مهذب الدين أبو سعيد محمد أبي حليقة رئيساً للأطباء في البيمارستان وقلد أخيه علم الدين إبراهيم، وكذا أخيه الثاني موفق الدين أحمد صفة مستشارين في أمور تدريس الطب بالبيمارستان لما اتصفا به من الخلق، والعلم، والكياسة.
وتعزيزاً لدور الرقابة في الإسلام على الممارسة الطبية، وحفاظاً على الأخلاقيات الخاصة بالمهنة، فقد وضع "أبو الحسن بن رضوان سبعة شروط أو خصال كما سماها) رأى من الضروري توفرها بالطبيب أثناء توليه رئاسة المستشفى المنصوري بمصر هي:
أ/ أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرواية، عاقلاً ذكوراً، خير الطبع.
ب/ أن يكون حسن الملابس، طيب الرائحة، نظيف اليدين والثوب.
ج/ أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
د/ أن تكون رغبته في إبراء المرض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبة في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
و/ أن يكون حريصاً على التعليم، والمبالغة في نفع الناس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.