ظهرت الحركات السياسية الإصلاحية في تاريخ أمتنا مع تغيير النظام السياسي من الشورى إلى الملوكية في فجر الدولة الأموية. وقد حاول بعض الثوار أمثال عبدالله بن الزبير والحسين بن علي (رضي الله عنهما) إعادة الحكم إلى شورى المسلمين إلا أن ثوراتهم أخمدت في وقت مبكر، لكن ظلت الفكرة حية في أفئدة المسلمين، وظلت النار تحت الرماد. وظل الناس يتألمون لما آل إليه الحكم الإسلامي من الملوكية الكسروية، قرآنهم يهتف عاليا بالشورى!حاول العديد من الناس استغلال مشاعر المسلمين لصالح أهدافهم، إلا أنهم لم ينجحوا في زعزعة أركان الحكم، وظلت ثوراتهم فتنا أريقت في سبيلها بحار من الدماء دون أن تصل إلى أهدافها...ظهر الحزب الشيعي في هذه الفترة الحرجة، وفي ظل هذه المشاعر المتضاربة، وأراد استغلال الموقف لصالحه. بيد أنه كان يعاني من شرخ خطير في داخله. فقد كان الحزب يتشكل من جناحين؛ الجناح العباسي والجناح العلوي.حاولت العقول السياسية في الأسرة العباسية (التي أوصلت نسبها إلى العباس؛ عم الرسول صلى الله عليه وسلم ) تغيير مجرى الحكم من الأموية إلى العباسية، على نفس نظام الملوكية!وكان الطامعون للحكم في الأسرة التي نسبت نفسها إلى سيدنا علي؛ ابن عم الرسول (صلى الله عليه وسلم) يريدون الحكم لأبناء هذه الأسرة!في حين أن عامة المسلمين والعلماء والصالحون من الأسرتين كانوا يأملون تغيير مجرى الحكم من الملوكية إلى الشورى، لتعود المياه إلى مجاريها، وتستقر الأمور وتخمد الثورات، وقد أحسنوا الظن في الأسرة المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرشحوها لهذه المهمة.إلى هذا التاريخ ظل المسلمون مع اختلافاتهم السياسية، كتلة دينية موحدة؛ في عقائدهم وعباداتهم. وهم على ما عليه جمهور المسلمين من أهل السنة الجماعة.استطاع الحزب الشيعي العباسي الوثوب على الحكم على حين غرة من الحزب الشيعي العلوي، فاضطر الأخير على العمل السري تحت الأرض لتغيير معادلة الحكم لصالحه. لكن مع ازدهار القوة العباسية، أخذ اليأس يدب في من بقي في صف الحزب العلوي، فشعر الحزب بأن الأتباع سوف يذوبون مع الزمن ويتلاشى الحزب، ففكروا في بناء شخصية لأعضاء الحزب الشيعي العلوي تميزهم عن جمهور المسلمين. فجاءت فكرة الإيمان بالإمامة! لنقل محورية القرآن والحديث وتقدسهما إلى رجل الدين!ولأن الفكرة كانت في أساسها فكرة ساذجة، تفتقد إلى أدنى مصداقية أو تأييد أو مرجعية شرعية من القرآن والحديث، أحدثت انشقاقات خطيرة في الصف الشيعي، فأخذ الشيعة يتشتتون ويتفرعون إلى أحزاب وجماعات شتى تكفر بعضها بعضا. وأخذ كل حزب من تلك الأحزاب المتناحرة يجعل رحاه يدور حول محورية إمام يرتضيه لنفسه دون أئمة الآخرين، وتسعى لبناء هيكل فقهي وعقدي يدور حول محور الإمام وقدسيته.الشيعة الإثنا عشرية واحد من تلك الأغصان الكثيرة التي قويت شوكتها في القرن العاشر، لما ظفرت بسيف الشاه إسماعيل الصفوي في إيران.حكم الصفوية سيفهم على رقاب الناس في إيران وأجبروهم على ترك دينهم، والإيمان بالمذهب الشيعي الإمامي الذي ظهر بشكل مذهب ديني عبادي يناطح ما عليه جمهور الأمة أي؛ ما اصطلح عليه بمذهب أهل السنة والجماعة تمييزا عن غيره من المذاهب المحدثة .أنشأ الصفويون دولة إيرانية مقابل الخلافة العثمانية، وأخذوا يناوشون العثمانيين لصالح أوروبا المسيحي. وجد الصفويون بأن الشخصية الشيعية سوف تظل قابلة للذوبان في المجتمع الإسلامي الكبيرما لم يغيروا كيانه بشكل جذري وبالأخص في تلك الفترة التي كانوا يقاتلون الخلافة الإسلامية في صف النصارى، فأخذوا يملأون المذهب بعناصر الحقد وكراهية الآخر، والتقرب إلى الله بخداعهم تحت عناوين مذهبية كالتقية مثلاً، ويجندون في صف المذهب معظم العقائد الشاذة والغالية التي انتشرت بين المذاهب الشيعية الإفراطية. ويركزون على تحريف التاريخ، إلى درجة أن أصبح المذهب لا يشترك حتى في طقوسه العبادية كالأذان والصلاة مذهب جمهور المسلمين!واليوم؛... حاولت الثورة الخمينية الأخيرة أن تستمر على هذا النهج في تحريف الشخصية الشيعية أكثر فأكثر عن جمهور المسلمين طمعا في الحفاظ عليها، فأصبحت إيران تبكي قرابة ثلث أيام السنة في تواريخ الميلاد والوفيات للأئمة وأبنائهم، وتغير تاريخ وفات فاطمة الزهراء من الوفاة إلى الشهادة، ثم إلى عشرة أيام بكاء وعويل عليها ولعن صهرها؛ أمير المؤمنين عمربن الخطاب، الذي يزعم الشيعة بأنه قتلها وأسقط جنينها أمام زوجها وأولادها الذين كانوا يتفرجون على الموقف دون أن يحركوا ساكنا!!..وتمعنا في فصل الشخصية الشيعية عن سائر المسلمين تم تجاهل العيدين الإسلاميين وتفخيم شأن عيد النوروز - من الأعياد المجوسية الإيرانية - واختراع عيد آخر سمي عيد "غدير الخم"!لكن مع هذا كله؛... ظل التعايش الشيعي السني، والكلام في أن القرآن هو الكتاب المشترك بين الفريقين، يعطي ثماره، فينضم المثقفون من الشيعة إلى جمهور المسلمين.سحب أصحاب الثورة الخمينية بساط قيادة الشيعة من تحت أقدام المراجع العربية في نجف إلى المراجع القابعين في مدينة "قم" الإيرانية، لإحتكار السلطة الدينية، وأموال الخمس. ومن ثم أخذوا في إحياء المفاهيم المتطرفة في الفكر الشيعي مثل؛ تكفير الصحابة وأمهات المؤمنين وسبهم ولعنهم، بغية استغلال شيعية العالم للأهداف الإيرانية، فقادوا بالكراهية والحقد الذي زرعوه في صدور أتباعهم مجازراً في العراق وأفغانستان يشيب من هولها الولدان! وأحدثوا فتنا ومجازر طائفية في العديد من بقاع الأرض.لكن هذه العقلية الطائفية التي كانت نائمة بين أسطر الكتب الصفراء القديمة لم تكن تواكب ثقافة العصر الحديث، فمن ثم أحدثت ثورة إصلاحية بين المثقفين من شيعة العرب - على وجه الخصوص - وشيعة الفرس عموماً، وأخذ الناس يئوبون إلى صوابهم أفواجاً.أدرك ساسة إيران خطورة الموقف، وأخذوا ينادون بمزج الروح العنصري والقومي في المذهب الشيعي الطائفي بشكل صريح. وقد نقلت وكالات الأنباء عن الرئيس أحمدي نجاد يوم الإثنين 25 أكتوبر 2010، خلال البانوراما العام الذي أقيم تحت عنوان "الحرب الناعمة"، قوله :"إننا ما نعترف به هو الإسلام الإيراني فحسب"!، وأضاف :"تؤكد التجارب التاريخية على أن الحظ الإيراني، والفهم الإيراني من الحقيقة أقرب إلى الحق المطلق!".وقال في جواب ما وجه إليه في إن كلامه دعوة صريحة إلى العنصرية، وقضاء مبرم على وحدة الأمة التي قال الله تعالى عنها :"إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". بأن هذا الإعتراض يؤكد ما أقوله، بأننا نحن الفرس لم نقبل الإسلام إلا لأننا كنا أكثر حضارة ومدنية وتقدماً على من عرض الإسلام عليهم لأول مرة!وصرح بأن الحق ليس إلا مع الإسلام الشيعي الإيراني (!)، وتطاول على الشيعة غير الإيرانيين كذلك، وطعن فيهم وقال إن الإسلام الإيراني أقرب إلى الإسلام العلوي حتى من إسلام الشيعة في خارج إيران!!..وسبق أن ركز أحمدي نجاد، ووالد زوجة ابنه؛ اسفنديار رحيم مشائي الذي يدير مكتب الرئيس الجمهورية على مثل هذه المفاهيم، والإشادة بالملك الهخامنشي "الكورش" واعتبروه النموذج الإيراني الأمثل لقيادة العالم!كل هذه المساعي في حفظ الكيان الشيعي المنهار من الداخل، تشير إلى أن ساسة الشيعة يعانون من أزمات قاتلة في داخل المذهب، وأن الحزب الشيعي الذي اتخذ لوناً مذهبياً أخذ طريقه إلى الذوبان والإنهيار، وهو ليس إلا في النزعات الأخيرة من عمره.