في بركة من دم انصهرت الأيديولوجيات وتلاشت الجغرافيا والجهوية، وبالمقابل كُتب التاريخ على صفحة "الكرامة" بمداد أحمر. لاح الدخان في الأفق المجاور لساحة التغيير، واعتلى القناصة أسطح المنازل التي تعود ملكيتها لرجالات في سلطة المخلوع علي صالح. أجواء "الكرامة" استثنائية عن أي يوم آخر، وأحد المنعطفات المهمة لليمن خلال السنين الخمسة عشر الأخيرة، فالمأساة لم تصنع الهزيمة لليمنيين قدر صُنعها المُلح لضرورة الإطاحة بالسور الذي يفصل بين وطنين. في 18 مارس من العام الماضي صنع القناصة حاجزاً اسمنتياً لمنع تمدد الكرامة إلى مناطق أخرى، وثمة خطايا كانت تُحاك من خلف الحاجز الاسمنتي ذا الثلاث الطبقات. أدعية اليمنيين بعد صلاة الجمعة تصعد إلى السماء والدخان الوضيع الناجم من إحراق الإطارات يحاول أن يتصاعد ليتستر على المُجرمين، بعدها يجيء تصاعد آخر: "الأرواح إلى بارئها". على بُعد خطوات من ساحة التغيير يقع منزل "محافظ محافظة المحويت محمد علي محسن الأحول" ويقطن فيه القناصة الذين أدوا مهمتهم المُوكَلة لهم على أكمل وجه وفي عمارات أخرى مُحيطة بالساحة. أحرجَ الشبل الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره "أنور الماعطي" والديه لينتقل من منطقة خولان إلى ساحة التغيير ليشارك في التغيير "إن لم أشارك في التغيير الآن فمتى"؟ هكذا قال لوالده وبكى بعد أن أراد أن يمنعه من الذهاب إلى الساحة خوفا عليه من ردود فعل محتملة من نظام صالح. 18 مارس عيد الكرامة، هكذا سيُدَو�'ِن اليمنيون التاريخ الجديد، ففيه دفعوا ثمن الانعتاق. ومذُ تلك اللحظة -أي مارس العام الماضي- سيحتفل صالح بزيف ميلاده مُطعماً بالجريمة لأنه يأتِ بعد ذكرى الكرامة بثلاثة أيام. يوافق ال 21 من مارس من "الأعوام الأخيرة فقط" يوم ميلاد صالح، لأنه أراد أن يتلقى التهاني والتبريكات في هذا اليوم. العام الماضي حُرم "المخلوع صالح" من تلقي التهاني والتبريكات بهذا اليوم، وبدأ الناس ينزاحون عنه واحداً تلو آخر لأن صالح وصل إلى أبشع مراتب الجريمة. بدأت الاستقالات تتوالى عقب بدأها القاضي حمود الهتار وزير الأوقاف والإرشاد، ونبيل الفقيه وزير السياحة، ونصر طه مصطفي رئيس وكالة الأنباء وغيرهم من السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين. توالت الاستقالات إلى أن جاء يوم السقطة الثانية لصالح عقب السقطة التي أودت به إلى قعر الحضيض، كان ذلك في يوم "ميلاده المزيف" الاثنين 21 مارس الذي أعلن فيه اللواء علي محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية الغربية والفرقة الأولى مدرع تأييده للثورة الشبابية ومساندته لها. كانت ضربة موجعة ل"صالح ونظامه" ذلك أن صالح لم يعد يتكئ على أية شرعية بقدر استناده على مصالح بعض الدول وإرادتها. استدعت جريمة "انتهاك الكرامة" غضب اليمنيين كافة وظن "صالح" أنه باستطاعته أن يمتص ذلك الغضب بمؤتمر صحفي ينفي الجريمة ويدينها، بل ويخصص يوماً للحداد. بصورة مُتجهمة وخُطىً على وقع الغضب العارم مشى صالح تجاه وسائل الإعلام وإلى جواره وزير الداخلية السابق مطهر المصري لينفي تهمة قتل المتظاهرين عن قوات الأمن المركزي والحرس الجمهوري، ودلالة نفيه إثبات الجريمة! لازال صالح في موقع الرجل الأول الذي تأتيه التقارير من كل فج، هكذا كان يُضفي الرجل على نفسه صبغة الادعاء مُحاولاً التغطية على المجزرة؛ فاتهم سكان الحارات المجاورة لساحة التغيير بالعاصمة صنعاء بأنهم وراء ما حدث. يُدرك اليمنيون أن صالح خُبز أياديهم والعجين وأثناء المؤتمر الصحفي ذاك أكد أن عدد الشهداء 8 أشخاص واعتبرهم شهداء الديمقراطية، كما دعا إلى فرض حالة الطوارئ لمدة شهر تبدأ من يوم إقرارها من البرلمان. بعد أيام أجرت معه قناة العربية حوارا مُطولاً وعندما سألته المُذيعة "منتهى الرمحي" عن الشهداء ال(54)، قال لها: ليسوا 54 هم 48، يتهم الإعلام بتضخيم الثورة، وكأن ال(48) عدد ضئيل!! في حوار أجرته صحيفة "الأهالي" مع رئيس وكالة الأنباء اليمنية سبأ المستقيل على خلفية مجزرة جمعة الكرامة، قال نصر طه مصطفى: "جاءت استقالتي بعد المذبحة التي حصلت في جمعة الكرامة، والتي أراها جريمة مكتملة الأركان، هذه الجريمة في تصوري جريمة مكتملة ومخطط لها بشكل بشع، وأنا آسف أن أستخدم هذا التعبير، وهي جريمة لأول مرة تحصل في تاريخ المحافظات الشمالية من خلال بحثي وأرجو أن يبحث آخرون لم يحصل مثلها أبدا، جريمة استهدفت قتل أبرياء عزل مسالمين لا يقرها أخلاق ولا ضمير، أحسست باستياء كبير لم أستطع معه الاستمرار في عملي بعدها، والحقيقة أنه قد طلب مني التبرير لها إلا أني لم أستطع ذلك، لاسيما وأنا أراها واضحة أمامي كجريمة مخططة وكان بقائي في عملي سيقتضي مني تسويق أكاذيب التغطية على الجريمة، والحقيقة أن الأخ الرئيس لم يكن حصيفا في التعامل معها، كان عليه وقد شكل لجنة تحقيق في الأمر، ألا ينسبها إلى أهل الحي". ولم يُشر صراحة رئيس الوكالة بمن نفذ الجريمة لكنه لمح إلى: "إنها جريمة مكتملة الأركان لا يمكن تدبيرها إلا في إطار أجهزة محترفة وإمكانيات كبيرة". حدث تواطؤ كبير وتآمر على ملف جمعة الكرامة، كانت القضية تمشي في مسارها الصحيح عندما كان عبدالله العلفي (النائب العام السابق) يجري التحقيقات ويشرف عليها بنفسه وكان هناك دفع قوي بتحريك الملف إلى القضاء. يقول المحامي عبدالرحمن برمان ويُضيف "لسبب أنهم أرادوا أن يُصدروا حكماً يُبرئ علي صالح قاطعنا الجلسات.. العالم كله اتهم علي صالح بارتكاب هذه المجزرة وأصابع الاتهام اتجهت نحوه والدليل على ذلك أن مؤسسات الدولة كلها تساقطت عقب المجزرة عندما أدركت أن علي عبدالله صالح هو من ارتكب هذه المجزرة؛ حتى قيادات من المؤتمر الشعبي العام انضمت إلى الثورة عندما أيقنت أن رئيس النظام ورئيس المؤتمر الشعبي العام هو الجاني، الكل كان يريد إحالة الملف إلى القضاء بأقصى سرعة قبل حتى أن يُجر ى تحقيق جدي لتتضح صورة القاتل الحقيقي للجميع. وعن موقف النائب العام الجديد قال "برمان": منظومة القضاء العامة (وليس النائب العام وحده) موقفها سلبي من جمعة الكرامة.. هناك تلاعب كبير.. حتى النيابة العامة لو جاءت وحققت تحقيقاً لا يوجد جدية عند أجهزة الأمن في القبض على الجناة. كان هناك تواطؤ على دفن قضية الكرامة، وإصدار حكم تبرئة لعلي صالح وأسرته من هذه التهمة. وأخيرا يكشف الدكتور العلفي أنه أقيل من موقعه كنائب عام ولم يقدم استقالته كما زعمت وسائل الإعلام حينها، ومن مواقف الدكتور العلفي يتضح أن قرار الإقالة كان على خلفية موقفه وتوجهه بشأن مجزرة الكرامة، خاصة وأنه كشف عن هذا الأمر في الذكرى الأولى للمجزرة.