هناك من يتصرف في الحياة على النحو الذي تمليه عليه غرائزه، وهناك من يتصرف على النحو الذي تمليه عليه قيمه وشريعته ، فيقع في صراع بين الذات ووساوس الشيطان، لكنه حين يتمسك بإملاءات قيمه وشريعته ينتصر ويتجاوز تحديات الغريزة والحياة وإغواء الشيطان بفاعلية تؤطر حركته وعلاقاته وتوجهاته بحسب الشرع ..فيجد لغرائزه متنفسا شرعيا نظيفا يصونها من التبدد والانحراف. حين يواجهك الواقع الموضوعي قد تمتلك قدرة الصمود تجاهه، لكن حين تتأجج غرائزك تفقدك الصمود أمامها ، وقد تستسلم لها وهنا تكون على المحك الذاتي وليس الموضوعي، فالموضوع منفصل عنك وبإمكانك مقاومته وامتلاك الوسائل اللازمة لجعله يندحر، لكن حين يأتي التحدي من داخلك تكون صعوبة المقاومة قوية ، وقد تضعف ، لأن الغريزة التي بداخلك لا يمكن أن تلجم إلا إذا امتلكت الإيمان القوي الذي يجعلها تخمد ، ولا تتحول إلى سلوك انحرافي يعمل على توهين قوتك الذاتية، فالموضوعي يستمد غالبا قوته تجاهك من كونه استغل ضعف إيمانك ، وبالتالي استخدم غرائزك لهزيمتك. الله عزو وجل قال للمسلمين حين انهزموا في المعركة فتساءلوا لماذا هزمنا فكان الجواب صريحا "قل هو من عند أنفسكم "من أعماقكم من دواخلكم التي لم تستطيعوا تمتينها بقوة الإيمان الذي يمنحكم النصر الأكيد. هناك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد رجعوا منتصرين من إحدى الغزوات "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الكبر" أي جهاد النفس، إن الموضوعي يفقد صموده أمام الذاتي القوي، وإن مشقة الانتصار على النفس أشد من جهاد العدو الذي تواجهه وجها لوجه. إن العلم الحديث يسمى السقوط الذاتي "السقوط الحر"، أي بإرادة الإنسان، فكونه سقوطا ذاتيا جاء بهزيمة ذاتية بين الإنسان وذاته ن بين الروح ومطالب الجسد التي تسعى إلى امتلاك الحياة بلا وعي بحقيقتها ، وإن الإنسان مخيرا بين ان ينتصر غلى ذاته أو ينهزم أمامها، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ومشيئة الأقوياء هي التي تجعلهم يختارون الإيمان بوعي وقناعة ذاتية، ومواجهة تباعات ذلك الخيار تستلزم بذل والتضحية ومجاهدة النفس والتفوق على مطالبها والاستعداد للتضحية من أجلها. إن امتلاك الذات أمرا صعبا، لا يجيده إلا الذين عرفوا كيف يكونوا على النحو الذي أراده الله لهم، إن الذي يجاهد نفسه مثلا لقيام صلاة الفجر، هو الذي امتلك ذاته ولم يسمح لها أن تسترسل مع لذة النوم، وحب الدفيء وطلب الراحة، بل أراد أن يمتلكها بمزيد من التحرر منها ، وجعلها تنسجم مع منهجية الشرع السوي وقيم الحق والعدل والخير والصلاح في هذه الحياة، غن الاستقامة لا تتأتى للذين يطلبونها بيسر، إن طاعة الله تمنحك الحرية الكاملة وتعيدك إلى مسلك الحياة السوي، وإن معصيته تأسرك وتحكم قبضة الشيطان وأعوانه عليك، فكلما امتلك الإنسان شيئا صارعا عبدا لما يملكه تنقلب المسألة، وتزداد الأمور عبودية حين تصبح الأشياء هي الغاية بحد ذاتها ، إن حب الخلود والتماشي مع أوهام الثراء التي تسبغها نعم الله عليك حين تشكره وتؤمن به تخرجك عن مسارك السوي، وتلحق بك الهزيمة الذاتية ، فتصبح كافرا، أو ملحدا، ظالما لنفسه "ودخل جنته وهو ظالم لنفسه، قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولأن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا، لذلك كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكمون العالم ، وينامون تحت الشجر، ويقتاتون السغب بقناعة متطلعين إلى ما عند الله من جنات ونعيم، إن الحياة لا يصنعها ذو النفوس الضعيفة والقلوب التي ترتجف حين ترى متاع الحياة الدنيا وتطمئن بها، بل يصنعها المؤمنون بالله ،الذي لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، الذين انتصروا على ذواتهم، فانعكست انتصاراتهم على واقع الحياة حركة تبني الحياة وتواجه التحديات.