بعد حصوله على الأغلبية المريحة عام 1997م قام المؤتمر الشعبي العام بعملية إقصاء شاملة لجميع الكوادر والكفاءات والخبرات الإدارية المحسوبين على غيره من القوى الوطنية وفق تصنيف سياسي يعتبر أن الوظيفة العامة (من الوزير إلى الغفير) هي حق مؤتمري خالص. وقد أدت عملية الإقصاء هذه إلى حرمان هؤلاء الناس من حقوقهم الوظيفية، ومن حقوق المواطنة -أيضاً- عندما وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مرميين بالشارع دون أي اعتبار إنساني أو قانوني أو أخلاقي. وفي الوقت الذي لم تنظر فيه حكومة المؤتمر الشعبي بأي اهتمام إلى النتائج المترتبة على عملية الإقصاء الهمجية تلك، سواء تجاه حرمان الدولة ومؤسساتها من تلك الخبرات وما تؤدي إليه من اختلالات إدارية، أو تجاه ما ستخلفه هذه العملية من شعور نفسي بالهضم والظلم والتمييز، فإن حكومة المؤتمر الشعبي العام ارتكبت خطأ آخر لا يقل جرماً عن سابقه وهو أن عملية الإحلال الوظيفي التي جرت بعد ذلك -إلى جانب أنها كانت قائمة على أساس الانتماء إلى المؤتمر فقط- فإنها لم تلتزم بأبسط المعايير والشروط الإدارية الضرورية حتى في أوساط المؤتمريين أنفسهم، حيث تحولت الوظيفة العامة إلى غنائم وهبات توزع في إطار قبلي ومناطقي وشللي. وفي هذا الإطار وقف عقلاء المؤتمر ومثقفوه متفرجين على هذا الخطأ التاريخي بحق الوطن أولاً، وبحق عشرات الآلاف من إخوانهم المنتمين إلى الأحزاب الأخرى، ولم يعترضوا على عملية الإقصاء والتهميش وما ارتبط بها من ممارسات خارج مفاهيم النظام والقانون. وتجاهل عقلاء ومثقفوا المؤتمر كذلك الجانب الأخلاقي المتعلق بهذه القضية حيث لم تعد مفاهيم المواطنة حاضرة في التعامل العام وأصبح طبيعياً أن يعامل أولئك الناس وكأنهم قادمون من بلدان أخرى، مثلهم مثل نازحي دول القرن الأفريقي الذين يعبرون الحدود البحرية اليمنية يومياً. والأهم في كل هذا أن عقلاء ومثقفي المؤتمر تجاهلوا النتائج الكارثية التي انعكست بشكل مباشر على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد بسبب سياسات التهميش والإقصاء التي مارستها حكومتهم خلال الخمسة عشر سنة الماضية، ولم نسمع أحداً يحذر من الانهيارات التي كانت تسير على خطاها أجهزة الدولة ومؤسساتها في ظل تغييب النظام والقانون وتفشي الفساد واحتكار مفاصل السلطة وإحكام السيطرة على موارد الثروة، حتى وصل الحال إلى أن الكثير من قيادات وأعضاء المؤتمر أصبحوا يشعرون بأن لديهم (بصيرة) خاصة بالوطن تعطيهم حق التصرف في كل شيء وليس للآخرين أي شيء. والحقيقة أن ما فرض استذكار هذا الموضوع من جديد هو ما يثيره بعض المؤتمريين هذه الأيام في أحاديثهم ونقاشاتهم وكتاباتهم التي تتهم حكومة الوفاق ووزراء المشترك تحديداً بممارسة إقصاء للمؤتمر والمؤتمريين. ومن المعروف أن المؤتمر في هذه المرحلة يملك نصف مقاعد الحكومة وهو بهذه الاتهامات يريد أن يبقي كل شيء على ما كان عليه قبل تشكيل حكومة الوفاق، وبالتالي على وزراء المشترك أن يظلوا في مكاتبهم ولا يحركوا ساكناً، وأن يحمدوا الله أن المؤتمر قد جهز لهم طواقم إدارية متكاملة. وأي محاولة للتغيير أياً كانت الحاجة لها فهي تعني أنهم إقصائيون حتى ولو أرادوا إصلاح ما وجدوه من اختلالات. طبعاً نحن ضد الإقصاء أياً كان مصدره أو شكله، ولابد أن نقف جميعاً مع المؤتمر والمؤتمريين لمواجهة سياسات الإقصاء التي تستهدفهم في كل زمان ومكان، ومن أي حكومة أو وزير. ولاشك أن المؤتمريين سيقدمون ما يؤكد أنهم مستعدين للتغيير ونبذ سياسات الماضي البغيض، إذ بإمكانهم أن يسحبوا البساط من تحت أقدام الإقصائيين بصورة عاجلة ومنظمة من خلال تبني مشروع وطني يعالج مظلوميات أولئك الذين تم إقصاؤهم في العهد المؤتمري السابق وإعطائهم الحقوق المالية والإدارية التي حرموا منها كاملة، وإعادة الاعتبار لهم قانونياً وأخلاقياً. وإلى جانب ذلك فإن المؤتمريين قادرين على إلجام خصومهم الإقصائيين بالعمل على تطبيق قانون التدوير الوظيفي بصورة عاجلة وصحيحة أيضاً تشمل مختلف المستويات الإدارية وفي جميع الأجهزة والمؤسسات الحكومية. وبالتأكيد فإن نجاح مبادرات المؤتمر والمؤتمريين في تطبيق النظام والقانون وتحقيق مبدأ المواطنة المتساوية سيجعلهم في طليعة بناة الدولة المدنية الحديثة المنشودة، وسيصبح الإقصاء المؤتمري في خبر كان، وعندها سيعرف الجميع كيف يتنافسون على البناء وأي الطرق أقرب للوصول إلى عقل وذهن المواطن اليمني صاحب المصلحة الحقيقية في كل ما يجري وما يقال.