م/ أحمد عبدالجبار عبده يظل الحديث عن البترول بشقيه النفط والغاز حديث ذا شجون لما لهذه المادة من أهمية بالغة في الحياة اليومية للإنسان والذي يحلو للبعض تسميته بالذهب الأسود، لكني قد أتجرأ على تسميته بماء الحياة الأسود. وبما أنني أحد المنتمين العاملين في هذا المجال منذ سنوات ليست بالقليلة سيكون حديثي من خلال هذه الأسطر وبأسلوب مهني مقتضب عن واقع الصناعة النفطية في بلادنا، وما هو المستقبل المنشود لتطور هذه الصناعة سواء الاستخراجية منها (الاستكشافية والإنتاجية وما يتعلق بهما) أو غيرها.. وقد يكون ما دفعني وزاد من حماسي للكتابة حول هذا الموضوع هو توجه الحكومة ممثلة بوزارة النفط والمعادن إلى إنشاء شركة وطنية قابضة لتعزيز العمل المؤسسي في هذا القطاع الهام وإجراء الإصلاحات الإدارية والهيكلية لتجاوز سلبيات وأخطاء الماضي. إن تاريخ الصناعة البترولية في الدول المصدرة للبترول مر بمراحل مختلفة، وقد لعبت الشركات الوطنية دورا رائدا في هذا المجال وساهمت في تطوير الصناعة البترولية الدولية بشكل ملحوظ وتم تحقيق المنفعة الاقتصادية لتلك الدول, وبشكل عام إن تجارب الشركات البترولية الوطنية التي تأسست في بداية الصناعة البترولية لتلك الدول لم يكن نجاحها ساعة ولادتها وإنما جاء عبر تراكمات وخبرات استغرقت سنوات. ومن هذه الشركات: (شركة بتروناس الماليزية, شركة أدنوك الإماراتية, شركة أرامكو السعودية, شركة النفط العمانية, شركة سونطراك الجزائرية, شركة بتروبراز البرازيلية) وغيرها. خلال مراحل تطور تلك الشركات وزيادة توسع نشاطها قامت باستنساخ وإنشاء شركات تابعة لها (Subsidiaries) متخصصة في مختلف الصناعات البترولية منها صناعات المنبع (Upstream) ومنها صناعات المصب (Downstream).وهذا ساعد تلك الدول المالكة لتلك الشركات على تجاوز الظروف الاقتصادية الصعبة وصارت في مصاف الدول البترولية العالمية. إن إنشاء شركة وطنية حكومية رائدة في القطاع البترولي باليمن تقوم بالإشراف المباشر على العمليات الاستكشافية والإنتاجية، وكذا تنفيذ مشاريع استثمارية في المجال الاستكشافي والإنتاجي والخدمي من خلال (الشركة الوطنية) أو من خلال شركات تابعة لها أو بالشراكة مع الغير يعتبر واجبا مرحليا، وذلك من أجل تحقيق الاكتفاء والاستقلالية المالية والإدارية والاستغناء عن الخبرات والشركات الأجنبية والذي سيرفد خزينة الدولة بموارد جديدة ضخمة. ولابد أن نذكر هنا أن أكثر من 90% من حجم المبالغ التي تنفقها الشركات المشغلة في العمليات البترولية تستوعبها شركات غير حكومية، ولا تستفيد منها الدولة شيئا يذكر لعدم وجود شركات حكومية منافسة. أعتقد بأنه لا يختلف اثنان من العاملين في القطاع النفطي والحريصين على هذه الثروة الوطنية الهامة أن السياسات التي تتبعها الوزارة حاليا والهيكلة الحالية للوزارة أيضا بأنها تحتاج إلى دراسة وإعادة نظر.. وإن مراجعة أي مؤسسة لأهدافها أو وسائلها وتقييم الأداء والعمل على تجاوز العوائق من أجل تحسين الأداء والحصول على أفضل النتائج وبما يواكب التطورات في مجال العمل والاستفادة من تجارب الآخر يعتبر خطوة هامة في الطريق الصحيح لتلك المؤسسة. وبالعودة إلى مراحل الصناعة البترولية في اليمن خلال السنوات الماضية، نجد أن آلية أدارة الصناعة البترولية أدت إلى اختلالات في بعض جوانب هذه الصناعة، وهذا بدوره أدى إلى تحجيم نمو وتطور هذه الصناعة رغم اتساع رقعة القطاعات الاستكشافية والإنتاجية، "آخذين بعين الاعتبار بعض الايجابيات التي رافقت سير العملية البترولية منذ نشأتها في اليمن", ومع استلام الدولة ممثلة بالهيئة والوزارة للقطاعات البترولية التي انتهت اتفاقيات المشاركة في الإنتاج فيها بعد مباحثات مضنية وإصرار من قبل الجانب الحكومي ممثلا بهيئة استكشاف وإنتاج النفط تمخض عنه استلام القطاعين (18, 14) وإنشاء شركتي صافر وبترو مسيلة لتشغيل القطاعين. التوجه إلى تأسيس شركة بترول وطنية يعد من مقومات تطوير الصناعة البترولية الوطنية ومواكبة الشركات التي سبقتنا في هذا المجال للوصول إلى مستوى مرموق في هذه الصناعة ويعد ضرورة وطنية كبرى. الوضع الحالي لهيئة استكشاف وإنتاج النفط: إن هيئة استكشاف وإنتاج النفط هي إحدى الوحدات التابعة لوزارة النفط والمعادن، تم إنشاؤها عام 97م وفق المهام الموكلة إليها والمخولة بالإشراف والرقابة على الشركات العاملة بما يلبي متطلبات تلك المرحلة في القطاع النفطي ويتماشى مع تلك الظروف آنذاك. ولذلك فقد اقتصر عمل الهيئة طوال هذه الفترة على الجانب الإشرافي والرقابي على الشركات العاملة فقط بحسب المهام الموكلة، وهذا ما أثر سلباً في عدم اعتماد الهيئة على نفسها في القيام بمهام تشغيلية أو استثمارية في القطاع البترولي بما يلبي طموحنا ويحقق الاستقلالية المالية ويرفد خزينة الدولة بموارد كبيرة. إن مراجعة أهداف ووسائل الهيئة منذ تأسيسها عام 1997م، ومن قبل ذلك في كل صورها ومسمياتها السابقة منذ قيام الوحدة، ومن قبل ذلك في شطري الوطن اليمني, نجد أن تلك المهام والأهداف لا تتناسب مع المرحلة الراهنة والمستقبلية بعد استعادة وتشغيل الدولة بعض القطاعات البترولية بأيد يمنية, وبالتالي لابد من الانتقال في الصناعة البترولية نقلة نوعية وحتمية بما يواكب التطورات الحالية في القطاعات البترولية, وإعادة تطوير وتوحيد القطاع البترولي إلى المسار الصحيح الذي يحقق العائد المالي الأساسي للدولة تحت مظلة وسقف واحد يتمثل في إنشاء شركة بترول وطنية أساسها ولبنتها الأولى هيئة استكشاف وإنتاج النفط للأسباب التالية: تعتبر هيئة استكشاف وإنتاج النفط أكبر الوحدات التابعة لوزارة النفط وتتحمل على عاتقها الإشراف الكامل بكل صوره على العمليات البترولية في مختلف قطاعات الجمهورية. إيمانا من الهيئة بمقدرة الكوادر الوطنية التي تم رفد الشركات الأجنبية بهم ومتابعة أنشطتهم ونجاحهم في إدارة العمليات البترولية في القطاعات المختلفة, فقد قامت بالاشتراك مع الوزارة بأجراء مباحثات مضنية مع تلك الشركات التي قاربت اتفاقياتها على الانتهاء -رغم إصرار تلك الشركات على البقاء والحصول على تمديدات من أجل الاستمرار في الحصول على عائد نفطي مثل شركة هنت وشركة كنديان نيكسن- مما نتج عن ذلك قيام أول شركتين وطنية وهما صافر وبترومسيلة. وجود الهيئة في ساحة الصناعة البترولية كممثل رئيس للدولة، وكشريك أساسي في مناطق الامتياز، ساعد على إنشاء بنى تحتية كبيرة في القطاعات البترولية المنتجة تشمل المنشآت الإنتاجية لمعالجة النفط والغاز والماء، وإعادة حقن الماء بهدف المحافظة على البيئة والآبار وخطوط الأنابيب ووحدات التصدير وغير ذلك. القيام بالإشراف المباشر على الشركات الاستكشافية والإنتاجية من خلال لجان التشغيل واللجان الاستكشافية الاستشارية التي تتولى مناقشة برامج العمل والميزانيات والعقود والمناقصات وأنشطة الشركات الأخرى. إن امتلاك الهيئة لكل المقومات الفنية والتقنية والمعلومات فيما يتعلق بجميع الصناعة البترولية ونخص منها بالذكر: تمتلك الهيئة أهم وحدة للصناعة البترولية وهي بنك المعلومات الذي يضم كل البيانات الرقمية والمخطوطات والخرائط ومجسات وتقارير الآبار ورسومات المسوحات الزلزالية والثقلية والمغناطيسية وغيرها التي تغطي كل أراضي الجمهورية والتي تعد من المقومات الأساسية لتأسيس أي شركة بترولية. تمتلك الهيئة الإدارات الفنية الأساسية والفرعية لقيام أي صناعة بترولية، وقد ساهمت على الدوام في تزويد الشركات العاملة بالكثير من المهندسين والفنيين احتل الكثير منهم مواقع قيادية في تلك الشركات ومن هذه الإدارات: - الإدارة العامة للاستكشاف التي تعد من أهم الوحدات الفنية الأساسية والمؤسسة للصناعة البترولية والتي تقوم بالإشراف الكامل على كل الأنشطة الاستكشافية من المراحل الأولى للصناعة البترولية بدءاً من الدراسات الجيولوجية والجيوفيزيائية والمصادقة على تنفيذ الأعمال والحفر الاستكشافي وفحص ودراسة نتائج الآبار وتقييم الاحتياطيات البترولية وغيرها. - الإدارة العامة للمكامن التي تعد أيضا من الوحدات المهمة وتقوم بدراسة الاحتياطي والمخزون البترولي وتقييم أدائية الحقول المنتجة، وتحديث النماذج المكمنية المختلفة في مختلف القطاعات البترولية بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الأخرى. - الإدارة العامة للإنتاج التي تقوم بدراسة ومراجعة وتقديم المشورة والمصادقة على برامج مواقع حفر الآبار الإنتاجية المقدمة من الشركات العاملة بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الأخرى. - الإدارة العامة للبيئة والسلامة المهنية وأمن المنشآت وتتولى الرقابة وضبط المعايير في مجال البيئة والسلامة المهنية. - الإدارة العامة للرقابة على المواد وتتولى الرقابة الشاملة للاستيراد وإعادة التصدير، والأسعار والإعفاءات الجمركية، والتوثيق والتخزين والجرد للمواد والمعدات وقطع الغيار التي تستوردها الشركات الأجنبية العاملة في مختلف أراضي الجمهورية. - بالإضافة إلى الإدارات الفاعلة في الهيئة توجد أيضا إدارات أخرى مثل الشؤون المالية والإدارية وغيرها. بالعودة إلى كل ما ذكر أعلاه نجد أن هيئة استكشاف وإنتاج النفط هي اللبنة الأولى والممثل الرئيسي والشامل الذي يمتلك كل المقومات للصناعة البترولية في اليمن، وبالتالي هي المظلة التي يجب أن تحتوي تحت كنفها صناعات بترول المصب (Upstream) على أقل تقدير. مبررات الإنشاء: كيان هيئة استكشاف وإنتاج النفط الحالي بجميع إمكانات الهيئة المادية والفنية واللوجستية... الخ هو الجزء الأساسي للمشروع (الشركة الوطنية)، بما في ذلك الكادر المؤهل الذي يعتبر حجر الزاوية لأي تطور، ولعل الكادر التابع للهيئة بمختلف التخصصات والذي يتميز بخبرة وكفاءة عالية والذين منهم من يعمل حاليا لدى الشركات الأخرى الأجنبية والمحلية ويتبوأ مواقع هامة. ولا بد من الإشارة من خلال هذه الأسطر إلى أهم المزايا والمبررات لإنشاء الشركة الوطنية على سبيل المثال لا الحصر: أولا: العائد المادي الكبير الذي سيرفد خزينة الدولة، وذلك من خلال الاستثمار والمنافسة في جميع مجالات الصناعة النفطية، أما حاليا فهناك الكثير من المبالغ تصرف في العمليات البترولية الاستكشافية والإنتاجية والخدمية تذهب إلى المستثمر الأجنبي نظرا لأن الدولة لا تمتلك حتى الآن شركة وطنية رائدة في الصناعة البترولية ذات مهام (استكشافية وإنتاجية وتشغيلية وخدمية) مثل الدول النفطية الأخرى. ثانيا:توحيد الإشراف والرقابة الحكومية على الشركات العاملة لدى جهة واحدة، والقضاء على الازدواجية الرقابية والفنية والإدارية الكائنة التي تشتت الجهود وتربك العمل. ثالثا: تحقيق الاستقلالية المالية للهيئة سابقا (الشركة حاليا) بدلا من الاعتماد على ما يصرف من المالية. رابعا: مواكبة التطور في جميع مراحل الصناعة النفطية وتطوير الخبرات الوطنية المحلية. خامسا: الاستثمار في القطاع البترولي والقيام بمهام تشغيلية للقطاعات النفطية والغازية. سادسا: تشغيل الكادر المحلي المؤهل والذي يمتلك الخبرة في مختلف التخصصات. سابعا: تشغيل القطاعات النفطية المنتجة التي يؤول تشغيلها من المشغل الأجنبي للدولة. ثامنا: تقليص النفقات الهائلة التي ينفقها المشغل الأجنبي والذي سيعمل على تخفيض نفط الكلفة. تاسعا: مطلب هام وضرورة المرحلة التي تعيشها بلادنا حيث أن المشغل المحلي (الشركة الوطنية) سيعمل في كافة الظروف. عاشرا: الاستثمار في القطاعات المفتوحة لاسيما مع توسع وتطور الخارطة النفطية المستمر والذي وصل حتى الآن (105) قطاعا وبقاء بعض القطاعات مفتوحة حتى الآن. إشارة وإشادة: وأخيرا أود الإشارة إلى أنه قد تم بالفعل الانتهاء من إعداد مشروع قانون الشركة الوطنية للبترول (بترو يمن) من قبل وزارة النفط والمعادن، وتم عرضه على المجلس الاقتصادي في مجلس الوزراء لدراسته وإقراره، وهذه خطوة تشكر عليها قيادة وزارة النفط ممثلة بالأستاذ أحمد دارس وزير النفط والمعادن. وما نتنماه أن يسرع مجلس الوزراء في إقرار هذا المشروع لما يمثله من أهمية قصوى لاسيما في هذه المرحلة.