ليست مصادفة تلك التطورات المتراكمة في العلاقة بين واشنطنوطهران: قبل أسبوعين، كلام عن محاولة اغتيال السفير السعودي في العاصمة الأميركية مقرون بتوريط لإيران. بعد أسبوع، انطلق الكلام من مكان «غربي» آخر: تسريبات إسرائيلية عن ضربة عسكرية لإيران. وفيما الأوساط الدولية مشغولة بتقدير صحتها وجديتها، يخرج تقرير لوكالة الطاقة الذرية الدولية ليشير الى ما وصفه باقتراب طهران من بناء سلاح نووي. ولمن يعرف أسلوب عمل الماكينة الإعلامية الغربية، بدا واضحاً أن هناك عملية تجميع لأدبيات سياسية كاملة، تكمن خلف «سياسة» أميركية شاملة، لا يمكن أن تقتصر على إيران، بل تتعداها لتشمل المنطقة برمتها. هكذا بدأ المراقبون البحث عن الاتجاه الاستراتيجي الجديد الذي تعدّه واشنطن، والذي تشي به «أدبياتها» الإيرانية المتكشفة تباعاً. بعض مراكز الدراسات الأميركية ومواقع التحليل السابرة لكواليس «المثلث الفيدرالي»، بدأت تتحدث عن عملية سياسية بدأت فعلياً مع انهيار «الأنظمة الحليفة» في تونس ومصر، في شهري كانون الثاني وشباط الماضيين. فالصحيح أن سقوط بن علي ومبارك فاجأ الأميركيين، غير أن رد فعلهم لم يتأخر. أواخر آذار الفائت، كانت القيادة المركزية للقوات الأميركية (سنتكوم) المكلفة العمل العسكري والاستراتيجي في نطاق نحو 20 دولة، بينها إيران، مصر، السعودية، البحرين (حيث مقر الأسطول الخامس الأميركي)، اليمن (حيث مراكز فاعلة لتنظيم «القاعدة» الأصولي)، الأردن، العراق وسواها من الدول... كانت «سنتكوم» على موعد مع خلوة سرية مغلقة وطويلة: إنه اجتماع لما يسمى «الفريق الأحمر»، وهو كناية عن خليّة الأزمات الخاصة في القيادة. أما موضوع البحث فهو الآتي: بعد سقوط بن علي ومبارك، ومنعاً لاستفادة طهران من تطورات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخصوصاً للحؤول دون قيام جبهة عريضة هناك ضد إسرائيل، كيف نجعل العرب والإيرانيين في مواجهة دائمة؟ وضعت كل العوامل المساعدة للعصف الفكري على الطاولة: بين الطرفين اختلافات في التاريخ واللغة والمذهب الديني والثقافة والمصالح... وبالتالي فرضية الصراع يجب أن تكون سهلة التنفيذ. أفضت النقاشات الى التركيز على النظرية نفسها التي ولدت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي: المطلوب استدامة توترات المنطقة على خطوط تماسها الثلاثة: سنّة ضد شيعة (ما يعتبر ضرورة لمنع نشوء محور إسلام ضد يهود مسيحيين)، عرب ضد فرس (ضرورة لتجنب محور شرق ضد غرب)، مع إضافة جديدة: إسلاميين ضد علمانيين (ضرورة لمنع قيام محور أغنياء ضد فقراء). عززت النظرية استطلاعات رأي عربية وضعت على طاولة البحث. وهي تظهر أن أكثرية عربية ثابتة حين يطلب منها المفاضلة بين إيران والغرب تفضل إيران، لكنها هي نفسها حين تخيّر بين أي دولة عربية وإيران، تختار الدولة العربية. غير أن اللافت الأبرز في المعلومات المنقولة، هو أن تخطيط «الفريق الأحمر» لم يبدأ من الصفر أو العدم. فالبنتاغون أطلعه في تلك الخلوة على تحضيراته وإنجازاته في المنطقة، للعمل بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي. إذ اعتبرها أفضل وسيلة لاختراق أنظمة مقفلة لا وصول إليها عبر الإعلام المباشر. وقيل إن البنتاغون كشف عن تخصيص 42 مليون دولار اعتمادات إضافية لقسم «داربا»، وهو الجهاز التكنولوجي في وزارة الدفاع الأميركية، للعمل على مواقع التواصل الاجتماعي: رصد، تحليل، تطوير أفكار وبثها وإقامة شبكات مختلفة لتوزيع الأخبار وتحسيس الرأي العام وتعبئته وتحريكه. وهو ما قيل إن هناك محاولات حثيثة لاستثماره إيرانياً، بعدما تردد أن طهران تعدّ لإطلاق شبكتها العنكبوتية الخاصة، بحيث تحصن اتصالاتها وتعزلها عن التأثيرات الخارجية.. كل هذا في الشق العسكري الأمني. لكنّ ثمة جانباً اقتصادياً مالياً تجارياً استثمارياً يواكب هذه العملية ويحفزها. فالصراع العربي الإيراني عامل مساعد، لا بل مؤثر وحتى حاسم، في إقرار صفقات الأسلحة الأميركية لدول المنطقة، وقيمتها نحو 120 مليار دولار. بينها 67 ملياراً للسعودية وحدها، التي تعاقدت أيضاً مع واشنطن على تكوين جيش خاص من 35 ألف عنصر، مهمته حماية المملكة، وذلك بإشراف «سنتكوم» نفسها. هكذا يبرز جانب آخر للمخطط: إرضاء «المجمع الصناعي العسكري» الضخم داخل الاقتصاد الأميركي والمؤسسة الأميركية، واسترضاؤه. وهو المجمع الذي يقال إنه يحكم واشنطن وتُنسج حوله الأساطير، من كل الحروب الى كل الاغتيالات، وليس سر جون كينيدي غير واحد منها. إرضاء هذا «المجمع» في حمأة سنة انتخابية رئاسية ووضع اقتصادي سيئ، يبدو كأنه حبة الكرز فوق قالب الحلوى المسمى «ربيع العرب». في النهاية، من قال إن دماء المسحوقين والمقهورين غير قابلة للصرف و«الدولرة» في أرصدة وال ستريت؟! "تيار. أورج"