ما أن وقعت تفجيرات "الأربعاء الدامي" في بغداد إلا وسارعت الحكومة العراقية لاتهام البعثيين الموجودين في سوريا بالمسئولية ، بل وطالبت أيضا بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة الجناة ، ورغم أن البعض كان يلتمس بعض العذر لهذا الغضب ، إلا أنه بعد تفجيرات 25 أكتوبر / تشرين الأول ، فإن أي اتهام لجهات خارجية لن يحظى بأي مصداقية من قبل العراقيين ومن شأنه أن يسبب حرجا بالغا لحلفاء واشنطن قبل الانتخابات التشريعية منتصف يناير المقبل . فالتفجيرات التي وقعت يوم الأحد الموافق 25 أكتوبر والتي جاءت أشد فتكا من سابقتها تؤكد أن هناك قصورا أمنيا واضحا وأن الحكومة العراقية لم تعالج الأخطاء التي وقعت في تفجيرات الأربعاء الدامي ، ولذا فإنها هى التي يجب أن تتحمل كامل المسئولة وليس غيرها . وكان ما لا يقل عن 136 شخصاً لقوا مصرعهم فيما أصيب أكثر من 600 آخرين بجروح في تفجيرين باستخدام سيارتين مفخختين وقعا بصورة متتالية وبفاصل زمني قصير في الساعة العاشرة والنصف من صباح الأحد 25 أكتوبر خارج مقري محافظة بغداد ووزارة العدل ، فيما اعتبر أكثر هجوم دام يستهدف المدنيين في العراق خلال عام 2009 . كما اعتبر الانفجاران الأقوى منذ 19 أغسطس/آب الماضي عندما تم استهداف وزارتي الخارجية والمالية بشاحنتين مفخختين أوقعتا أكثر من 100 قتيل ومئات الجرحى ، فيما عرف بتفجيرات الأربعاء الدامي . ومع أن الحكومة العراقية سارعت في تفجيرات 19 أغسطس لاتهام سوريا بإيواء المسئولين عنها وتوترت على إثر هذا الاتهام علاقات البلدين وبادر كل منهما إلى استدعاء سفيره لدى الآخر ، كما وافقت الأممالمتحدة على طلب العراق إرسال محقق خاص للتحقيق في أحداث "الأربعاء الدامي" ، إلا أن "الأحد الدامي" جاء ليكشف المستور وهو القصور الأمني الصارخ ، فإذا كانت بغداد المدججة بقوات الأمن العراقية وقوات الاحتلال تشهد مثل هذه التفجيرات ، فإن الصورة تصبح قاتمة جدا وتؤكد أن الأسوأ مازال ينتظر هذا البلد الجريح . تعدد الجناة وما يضاعف من الصورة القاتمة السابقة هو استمرار الغموض حول مرتكبي التفجيرات التي تحدث في العراق يوميا ، فهناك من يتهم الاحتلال لإطالة أمد وجوده العسكري حتى وإن كان يصرح بعكس ذلك ، أو على الأقل تحويل الاحتلال المباشر إلى احتلال غير مباشر عبر إقامة قواعد عسكرية دائمة في بلاد الرافدين . وبجانب الاحتلال ، فإن هناك من يتهم الأحزاب السياسية المتصارعة والتي يعتقد أنها فشلت في حل خلافاتها وديا فاستخدمت العنف لايصال رسائل سياسية دموية قبل الانتخابات التشريعية ، خاصة وأن الأحد الدامي جاء بعد فشل الكتل السياسية العراقية الممثلة في البرلمان في الاتفاق على قانون انتخاب جديد ، كما جاء متزامنا مع اجتماع كان مقررا في اليوم ذاته للمجلس السياسي للأمن الوطني في العراق الذي يضم زعماء الكتل السياسية المشاركة في الحكم والذي كان يتوقع أن يضع حلا للخلافات بين الكتل السياسية وخاصة فيما يتعلق بموضوع الانتخابات في كركوك ، هذا بجانب أن التفجيرات الأخيرة استهدفت عناصر حماية وزارة العدل وهم من البشمرجة الكردية كون الوزارة من حصة التحالف الكردستاني .
أحد ضحايا التفجيرات الأخيرة وأخيرا ، هناك من يتهم البعثيين والصداميين والقاعدة وهذه الاتهامات تكون جاهزة دوما مع كل تفجير ، وهذا ما ظهر في تفجيرات الأربعاء والأحد الداميين ، ففي التفجيرات الأخيرة ، أعلن الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ أن الهجومين اللذين يحملان بصمات القاعدة وحلفائها قد يكون الهدف منهما عرقلة الانتخابات البرلمانية المقبلة في العراق ، كما أعلن قائد القوات البرية في الجيش العراقي الفريق علي غيدان المجيد أن الأشهر المقبلة قد تشهد تصعيدا أمنيا قبل إجراء الانتخابات وحتى أواسط العام المقبل موعد تسلم الحكومة الجديدة مقاليد الأمور. اتهام المسئولين السابقين للقاعدة في التفجيرات الأخيرة يتناقض مع اتهام البعثيين في "الأربعاء الدامي " ، الأمر الذي يبريء سوريا ويؤكد في الوقت ذاته أن الحكومة العراقية تلقي الاتهامات هنا وهناك ولا تعرف حقيقة ما يجري على أرض الواقع أو أنها تعرف الجاني الحقيقي وتلتزم الصمت . وما يرجح صحة ما سبق أنه رغم إعلان القاعدة مسئوليتها عن تفجيرات الأربعاء الدامي ، إلا أن الحكومة العراقية تمسكت باتهامها لسوريا ولم تقدم في الوقت ذاته الأدلة التي طلبتها دمشق في هذا الصدد . وكان تنظيم تابع للقاعدة في العراق أعلن مسئوليته عن التفجيرات التي وقعت يوم الأربعاء الموافق 19 أغسطس في بغداد وأسفرت عن مقتل 100 شخص وإصابة نحو 600 آخرين بجروح. وقال بيان للتنظيم الذي يطلق على نفسه اسم "دولة العراق الإسلامية" إن الهجمات شملت مبنى وزارة الخارجية ووزارة المالية ووزارة الدفاع ومحافظة بغداد ، بالإضافة إلى ما أسماها ب"أوكار الشر" في المنطقة الخضراء. الحكومة العراقية تجاهلت البيان السابق وقامت قيادة عمليات بغداد الأمنية بعرض شريط فيديو لاعترافات من وصفته بالمتورط الرئيسي في تفجيرات "الأربعاء الدامي" والذي كشف فيه عن انتمائه لتنظيمات حزب البعث العراقي المنحل والتي تقيم في سوريا . وأعلن المتحدث باسم قيادة عمليات بغداد اللواء قاسم عطا أن المتورط الرئيسي في هذه التفجيرات من منطقة المقدادية في محافظة ديالى الواقعة في شمال شرق بغداد. وأضاف أنه كان عضوا في تنظيمات حزب البعث منذ عام 1973 وبعد سقوط النظام الرئيس العراقي صدام حسين ، انضم لجناح عزة الدوري غير أنه تحول في عام 2007 إلى جناح محمد يونس الأحمد في حزب البعث ، حيث التحق بالتنظيم في سوريا وكان مسئوله المباشر هناك رجل يدعى صطام فرحان. وأوضح عطا أن مرتكب التفجيرات عاد إلى العراق لإعادة تنظيم خلايا البعث في ديالى وقبل نحو شهر تحديدا تلقى اتصالا هاتفيا من فرحان يكلفه فيه تنفيذ عمليات لزعزعة الوضع الأمني في العراق ، مضيفا أن فرحان أبلغ المنفذ بأن البعثيين لديهم علاقات بجهات معينة في الداخل ستسهل المهمة وأن هناك من سيساعده بنقل الشاحنات المفخخة إلى داخل بغداد.
انتقادات لاذعة
نوري المالكي شريط الفيديو السابق لم يقنع سوريا أو حتى العراقيين ، وسرعان ما رفضت دمشق تسليم بغداد مطلوبين في تفجيرات "الأربعاء الدامي " وهو الأمر الذي صعد التوتر بين البلدين . ويبدو أن المالكي كان يعتقد أن تصعيد التوتر مع سوريا من شأنه أن يمتص الغضب الداخلي تجاه سياسة حكومته المسئولة عن إذكاء العنف الطائفي واستمرار حمامات الدم في العراق ، إلا أن النتيجة جاءت عكس توقعاته . ففي 24 أغسطس الماضي ، شن إياد علاوي رئيس الحكومة العراقية الأسبق ورئيس القائمة العراقية الوطنية والأمين العام لحركة الوفاق الوطني هجوماً عنيفاً على الحكومة العراقية نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد وطالبها بالإعلان أمام الملأ عن مسئوليتها عن هذا التدهور. وقال علاوى فى حوار أجرته معه صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية إن عدم استعداد وجاهزية القوات المسلحة والقوات الأمنية بعد انسحاب القوات الأمريكية من المدن أدى إلى تدهور الوضع فى العراق. وأضاف أن الحكومة لم تكن واضحة وصادقة وواقعية عندما أطلقت التصريحات وتحدثت عن استعداد القوات المسلحة والقوات الأمنية لتحمل مسئولياتها الأمنية والتفجيرات التي تحدث كل يوم تقريبا وفي بغداد أخيرا خير دليل على ذلك. وانتقد رئيس القائمة العراقية أداء السياسة الخارجية للعراق وتوجيه الحكومة العراقية الاتهامات "لدول الجوار والدول العربية"، مشددا على أهمية بناء علاقات متينة مع العرب لأنهم يشكلون عمق العراق الاستراتيجي. وانتهى رئيس أول حكومة بعد سقوط نظام صدام حسين إلى القول إن حكومة المالكي لا تتمتع بالثقة بالنفس وطوال أربع سنوات استنزفت الوضع العراقي ولم تقم بأي شيء للعراقيين. ولم يقف الأمر عند انتقادات علاوي ، فقد دعت رئاسة البرلمان العراقي إلى جلسة طارئة لمناقشة الوضع الأمني المتردي ، في حين جرى توقيف 11 ضابطاً من رتب رفيعة في الجيش والشرطة للتحقيق معهم بشبهة التقصير في المهام الأمنية. كما سارعت قيادات أمنية عراقية إلى الاعتراف بأن نوعية العمليات الأخيرة كشفت "خروقات وإهمال أمني خطير" ، وقال اللواء محمد العسكري المتحدث باسم وزارة الدفاع العراقية إنه يجب الاعتراف بالأخطاء ومواجهة الحقائق ، في حين قال لواء عراقي آخر هو قاسم الموسوي إن العمليات الأخيرة هى خرق أمني يكشف عن الإهمال وتتحمل القوات العراقية معظم المسئولية عنه. وبجانب ما سبق ، يبدو أن الأغلبية الشيعية الحاكمة باتت هى الأخرى تدرك خطورة استمرار سياسات المالكي التي لا تعترف بالأخطاء وتركز على اتهام الجيران ، ولذا أعلنت شخصيات شيعية بارزة في 24 أغسطس الماضي عن تشكيل تحالف جديد لخوض الانتخابات المقبلة دون إشراك رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. ويضم التحالف الجديد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وأتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر ومنظمة بدر وكتلة التضامن المستقلة وتيار الإصلاح الوطني والمؤتمر الوطني العراقي ومجلس إنقاذ الأنبار ورئيس جماعة علماء العراق وتجمع عراق المستقبل ، وأطلق على هذا التحالف اسم "الائتلاف الوطني العراقي". ورغم أنه لم يعلن عن سبب استبعاد حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي من هذا الائتلاف الشيعي ، إلا أن المؤشرات ترجح أنه فقد شعبيته وأن أيامه في السلطة باتت معدودة .