الشيخ / نصر السلامي إن مقصود الشارع من الخلق - كما يقول عامَّة أهل العلم - أن يحفظ عليهم دينهم ودماءهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم , وهذه القضايا هي ما تسمى بالكليات الخمس، وقد اهتمت كل الرسالات السماويَّة بها ، ومنها شريعتنا التي تضافرت نصوص الكتاب والسنَّة على الدعوة إلى الحفاظ عليها ، وصيانتها من الضرر والفساد والانقراض ، ووضعت من الوسائل والتشريعات والحدود ما يحقق ذلك ضرورة وحاجة وتحسيناً ، وما هذا الاهتمام بهذه الكليَّات إلا لأنَّ الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا بها ، وأي اختلال في واحدٍ منها يعني فساد الحياة وشقاءها . ولقد أوجب الله على من يتولى أمر الناس أن يقوم بالشريعة وبما وضعته من الوسائل والحدود للحفاظ على هذه الكليات وصيانتها ، فإذا قصَّر ولي الأمر في القيام بهذا الواجب دخل الخلل إليها ووقع الضرر بها ، وهذا في حالة التقصير فكيف يكون الحال لو أنه اتخذ سياسات وإجراءات تستهدف هذه الكليات سلباً وتعود عليها بالدمار والفساد. مكانة سامية وقد أشرت في الحلقة السابقة إلى أثر انحراف الحاكم وفساده على الدين ، وفي هذه الحلقة أشير إلى أثر انحراف الحاكم وفساده على الكلية الثانية وهي النفس التي جاء ترتيبها الثاني بعد الدين لما لها في الإسلام من حرمة عظيمة ومكانة سامية ، روى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ على اللَّهِ من قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) . وروى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال « بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى الحُرَقَةِ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أنا وَرَجُلٌ من الأَنْصَارِ رَجُلا منهم فلما غَشِينَاهُ قال : لا إِلَهَ إلا الله فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ عنه فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حتى قَتَلْتُهُ فلما قَدِمْنَا بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لا إِلَهَ إلا الله» قلتُ : كان مُتَعَوِّذًا فقال : « أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لا إِلَهَ إلا الله» فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أَكُنْ أَسْلَمْتُ قبل ذلك الْيَوْمِ».وفي رواية أنه قال : « أفلا شققتَ عن قلبه » ، ولمسلم « أنه قال يا رسول الله استغفر لي فقال : « كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة » ، وفي ذكره تعالى لأول جريمة قتلٍ حصلت في تاريخ البشرية قال بعدها : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال ابن عباس : المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفاً من الله فهو كمن أحيا النَّاس جميعاً. وروى البخاري ومسلم عن المقداد رضي الله عنه قال قلت « يا رسول الله أرأيتَ إنْ التقيتُ أنا ورجل من الكفار فاقتتَلْنَا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمتُ لله أأقتله ؟ قال : « لا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فإنه بِمَنْزِلَتِكَ قبل أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قبل أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قالها » وللبخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا » قال ابن العربي : الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره. تغليض العقوبة ومن هنا غلَّظ الشرع عقوبة من قتل نفساً متعمداً ، روى أحمد وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد قال : كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجلٌ ، فقال ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً ؟ قال جزاؤه جهنَّم خالداً فيها وساق الآية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء : 93] قال : لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له التوبة والهدى . وقد حمل جمهور السلف ما ورد في ذلك على التغليظ ، وصححوا توبة القاتل. وصيانة للنفس من الهلاك حرم الله قتلها والاعتداء عليها ففي الحديث المتفق عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »، وحرَّم على الشخص أن يقتل نفسه أو يضر بها فقال سبحانه :{ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[النساء30]، وأباح المحرَّمَ عند الضرورة حماية لها من الهلاك فقال:{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[البقرة 173} ، وشرع القصاص على من قتلها أو اعتدى عليها فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة179] ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعريضها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال ، وقبل ذلك وبعده أمر بتوفير حاجاتها الضرورية لحياتها ثم تقويتها بالحاجيات وتجميلها بالتحسينيات ، وكلّف الحاكم المسلم بأن يسعى لتحقيق حد الكفاية لكل نفس هي تحت رعايته ، ومن ذلك أن يسعى لتوفير الأمن العام والكامل لهذه الأنفس ، ومنه الأمن الغذائي لحمايتها من الجوع والهُزال ، والأمن الصحي لحمايتها من الأمراض والأسقام ، والأمن الجسدي لحمايتها من القتل والضرب والتعذيب ، وتوفير القضاء النزيه الذي يحمي الحقوق ويقتص من المعتدي ، ويوفر الأسباب الكاملة لحياة بشرية كريمة ،أخرج البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في حلية الأولياء وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عمر بن الخطاب أن كان يقول: ( لو ماتتْ سخلة (ولد الشاة) على شاطئ الفرات ضيعةً لخفتُ أن أُسأل عنها) ، حينما قال الخليفة عمر ذلك فإنه كان يدرك تماماً مسئولية الحاكم في حفظ نفوس رعيته ، وتأمين السلامة لهذه الأنفس من العطب والهلاك والضرر والأذى حتى تحيى سليمة قوية قادرة على القيام بمنهج الله في الأرض وتعميرها والتمكين لدين الله فيها ، ولولا المحافظة على هذه الأنفس لساد الهرج والمرج، وسفكت الدماء وتحولت البشرية إلى حيوانات كاسرة يقتل بعضها بعضًا ، فإن قصَّر الحاكم تجاه هذه المسئولية وانحرف عن هذه المهمة فقد أسهم في فساد الأنفس ودمارها وموتها والإضرار بها ، فكم من الأنفس سفكت دماؤها بسبب الاستبداد والبغي والظلم الذي يمارس من قبل الحاكم وزبانيته ؟ فمثلاً: كم هي الدماء التي سفكت بسبب القرار السياسي المنحرف الذي تولى به يزيد بن معاوية الخلافة دون اختيار من الأمة وأُخذت له البيعة من الناس قهراً، ومن امتنع ورفض قوتل ، فكانت مجزرة قتل الحسين بن علي وأهل بيته وأنصاره ، واستباحة المدينة في وقعة الحرة يقول ابن تيمية عن يزيد : ( فإنه بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه فأرسل لهم جيشاً عظيماً وأمرهم بقتالهم فجاؤا إليهم وكانت وقعة الحرة على باب طيبة وما أدراك ما وقعة الحرة ، ذكرها الحسن مرة فقال : ولله ما كاد ينجو منهم واحد ، قتل فيها خلق كثير من الصحابة ومن غيرهم ) وما حصل بعد ذلك من قتل عبد الله بن الزبير وأتباعه في زمن عبد الملك بن مروان على يد الحجاج بن يوسف ، وما حصل بعدها من الفتن بين المسلمين إنما كانت نتيجة الانحراف السياسي الذي حصل في الأمة ، وأنت أيها القارئ أضف إلى هذا ما تعرف من تاريخ الأمة قديماً وحديثاً من سفك للدماء وإزهاق للأرواح ؛ نتيجة القرارات السياسية المنحرفة ، وإذا قربنا من واقعنا : فكم هي الأنفس التي تموت قتلاً أو تؤذى قطعاً أو جرحاً في كل عام جراء الصراعات التي تدور بين القبائل وبين المختلفين والمتصارعين على الأراضي أو غير ذلك ؟ تقصير في إصلاح ذات البينوالجواب : إنها مئات الأنفس إن لم تكن آلافاً ، ولا يختلف معي أحد أنَّ من أهم أسباب ذلك هو تقصير الحاكم في إصلاح ذات البين ، وتقصيره في إيجاد القضاء المستقل والنزيه والجاد في معالجة مشاكل الناس أولاً بأول دون مماطلة أو تمييز أو محاباة ، إنه تقصير الحاكم في إقامة حدود الله ، وأخذ القصاص من المعتدي ، وربما أن الحاكم قد يكون هو الساعي في التحريش بين الناس والمصر على إبقاء النزاع بينهم مستمراً ، والمفسد للقضاء بتدخلاته ومحاباته ، والواقف مانعاً من تنفيذ الحدود التي شرعها الله . وكم هي الأنفس التي تسفك دماؤها في كل عام في حوادث السير والطرقات؟ والجواب : أنه يصدر في كل عام تقرير عن وزارة الداخلية يفيد أن متوسط عدد القتلى في حوادث السير في كل عام يصل إلى ثلاثة آلاف نفسٍ ، والإصابات تصل إلى إحدى عشر ألف إصابة ، لا نستطيع أن ننكر أن مخالفة المواطنين لإرشادات المرور وجهلهم بقواعدها هي السبب الأعظم ، ولكن لا يمكن أن نغفل أيضاً أن من أسبابها المهمة تقصير الحاكم في تعبيد الطرق وإصلاحها وتوسيعها وإزالة الحفر والمطبات التي توضع في الخطوط السريعة بدون ضوابط ولا علاما ت وتسبب عشرات الحوادث وتذهب ضحيتها مئات الأنفس ، ووالله إن الواحد منا ليخجل حينما يشاهد الطرقات في بلاد الغرب - مثلاً – فهي تقنعك ضرورة أنك في بلاد تحترم حياة هذا الإنسان وتبذل من أجل حمايتها الكثير ، بينما في بلادنا تكاد تجزم أن هذه الحياة ليس لها تلك القيمة التي أرادها الله. وكم هي الأنفس التي تموت كل عام أو تصاب بأمراض خبيثة من أثر السموم التي تنتشر في البلاد أو ترش على الخضروات والمأكولات وتدخل إلى بلادنا دون أن تجد مانعا يمنعها أو قوة تردعها؟ والجواب : أن التقارير المتخصصة تنذر بأن بلادنا من أوائل الدول العربية انتشاراً لأمراض السرطان والأمراض الخبيثة عافانا الله منها جميعاً. كم هي الأنفس التي تذهب نتيجة الانتحار ؟ والجواب : إن تقريراً لوزارة الداخلية يفيد أن عدد حالات الانتحار في بلادنا خلال ثلاث سنوات من2005 إلى2007م وصل إلى 750حالة ، ولعل أبرز دوافع الانتحار هي البطالة والحاجة والظلم الذي أفقد المنتحر قيمة حياته وحولها إلى جحيم. وكم هي الأنفس التي تموت لأنها لم تجد الدواء أو الرعاية الصحية المناسبة في وقتها المناسب؟ والجواب : أن الرعاية الصحية المناسبة في بلادنا إنما هي لمن يملك المال ، وأما من لا يملك المال فلن يجد هذه الرعاية ، وما عليه إلا أن يستسلم للمرض ، أو يرتمي على أبواب المساجد يسئل الإعانة والإغاثة ، أو يلقى حتفه في طريق البحث عن العلاج ، وللمثال على ذلك فقد كنتُ في طريقي إلى قرية من قرى اليمن في منطقة جبلية وفي الطريق الضيق الصعب غير المسفلت وجدنا سيارة واقفة وعلى وجوه أصحابها يظهر الحزن وهم يسترجعون ، فقلنا : ما الأمر ؟ قالوا : ساعة ونصف ونحن نمشي لنسعف هذه المرأة الحامل إلى المركز الصحي ، ولكنها ماتت قبل أن نصل إليه كما ترون . ومن ذلك أن التقرير الصادر عن منظمة الأممالمتحدة للطفولة والأمومة "اليونيسيف" في اليمن خلال عام 2008 يفيد أن الموت يُغِّيب يومياً 79 رضيعاً من كل ألف رضيع، و94 طفلاً دون سن الخامسة من كل ألف طفل، وأن 46 % من الأطفال يعانون سوء التغذية ، وأكدت "اليونيسيف" أن وفيات المواليد الجدد في اليمن يبلغ 37 % والرضع ما دون السنة 75 %. إن هذه الأرقام المذهلة تنذر بالخطر، إنها تعلن صراحة أن حياة الإنسان في بلادنا مهدورة الكرامة ، رخيصة القيمة ، هيِّنة على أهلها . وما أشرت إليه من آثار إنما تعلقت بجانب بقاء هذه الأنفس وحفظها من الهلاك فكيف لو تحدثنا عن آثار المنكر السياسي على بناء هذه الأنفس صحةً وقوة ، نشاطاً وحيوية ، فكراً وثقافة ، حريةً وكرامة ، خُلُقاً ومروءة ، إبداعاً وعبقرية