يبدو أن قطار الثورات العربية الذي انطلق بأقصى سرعة بعد طول توقف، قد اضطرَّ لتخفيف سرعته قليلا، فبعدما أطاح في طريقه بنظامين عتيدين في مصر وتونس، وأوشك أن يطيح بثالث في ليبيا، حدث بعض التعثُّر، فنظام القذافي أطلق العنان لكتائبه ومرتزقته وطائراته الحربية في قمع الثوار، مما جعل الموقف يتحوَّل من ثورة سلميَّة إلى مقاومة مسلَّحة، مما قد يتطلب مزيدًا من الوقت والتضحيات، أما في اليمن فإن الرئيس علي عبد الله صالح ما زال يفضل خروجًا مبرمجًا من الحكم، حتى لو اضطرَّ لنقل لصلاحياته لحكومة برلمانيَّة والبقاء في السلطة بشكلٍ صوري حتى نهاية ولايته عام 2013. وقد يستغرب البعض سقوط مبارك وبن علي بهذه السرعة، رغم امتلاكهما لأجهزة أمنيَّة وعسكرية قويَّة، في حين صمد القذافي وصالح اللذان أعادا دولتيهما لنحو قرنٍ إلى الوراء، لكن هذا الاستغراب يمكن تفسيره بأن حضور الدولة بمؤسساتها وأجهزتها في مصر وتونس أقوى وأعمق مما هو الحال عليه في ليبيا واليمن، ولذا عندما أراد نظاما "مبارك" و"بن علي" الاستمرار في الحكم، ولو على جثة الدولة، من خلال إعطاء أوامر للجيش بقمع المتظاهرين، فإن كلا الجيشين تصرَّف كمؤسَّسة دولة، تدين بالولاء للشعب وليس للنظام، وقرَّرا الانحياز لمصدر الشرعيَّة الحقيقي، وهو الشعب، لا الرئيس. ما قبل الدولة أما في ليبيا فقد كانت فكرة الدولة غائبة تمامًا عن المشهد، فما يسمى باللجان الشعبية لم يكن أكثر من "مسرحية هزليَّة"، اضطرَّ الليبيون للانخراط فيها تجنبًا لبطش القذافي، الذي حرص على إبقاء شعبه في "حقبة ما قبل الدولة"، معتمدًا على بطش الأجهزة الأمنية من جهة ورشوة زعماء القبائل ووجهاء المدن من جهة أخرى، ولذا عندما اندلعت الثورة، فقد تصرَّف الليبيون بمنطق القرية أو القبيلة، بحيث انحازت عناصر الجيش والشرطة في كل مدينة لجانب أهلهم، وقاتلوا معهم المرتزقة وكتائب القذافي، التي تعد تطويرًا لفكرة "البلطجيَّة" في مصر، فعناصر الكتائب تنتمي لقبيلة القذافي وقبائل صغيرة متحالفة معها، وهم اليد التي طالما بطش بها القذافي، كما أنهم يتمتعون بنفوذ وامتيازات واسعة، وسقوط النظام يعني خضوعهم للعقاب، ولهذا فإنهم يستميتون في القتال من أجل بقاء النظام. وإذا ما انتقلنا للمشهد اليمني، فإن الأمور تعدّ أكثر تعقيدًا، فالدولة حاضرة هناك إلى حدٍّ ما، باعتبار أن الحكم الحالي هو امتداد للثورة ضد نظام الإمام، والتي أسّست لدولة جمهورية، لكن هذا الحضور يجاوره حضور آخر لا يقلّ قوَّة وتأثيرًا، وهو حضور القبيلة، فالدولة اليمنية بإمكانياتها الضعيفة وتضاريس البلاد الوعرة وحروبها المتعددة، فشلت في إيجاد صيغة لجذب المواطنين لكنفها، كما أنها لم تكن تملك المغريات أو القوَّة أو الكفاءة لبسط هيمنة مؤسساتها، وعوضًا عن ذلك فقد انخرطت الدولة في تحالف غير مكتوب مع القبيلة، وأصبح زعماء القبائل هم أنفسهم رموز السياسة وقادة الأحزاب، ومن بقي منهم في المدن والقرى النائية تحوَّل إلى وسيط ما بين الدولة وباقي أفراد القبيلة. "دولة فاشلة" وقد توطّد تحالف "الدولة- القبيلة" خلال حرب الانفصال عام 1994، حيث لجأ صالح إلى مسلحي القبائل لمقاتلة الحزب الاشتراكي في الجنوب، ومع هزيمة الانفصاليين واستعادة الوحدة أصبحت القبيلة شريكًا في الدولة الجديدة، وهو ما عكسه تولي الشيخ عبد الله الأحمر، زعيم قبائل حاشد، كبرى قبائل اليمن، رئاسة مجلس النواب حتى وفاته قبل عامين، كما أن صالح دفع بأقاربه لتولي المناصب الحساسة بالدولة، خاصةً الجيش والأمن، حيث يتولَّى ابنه قيادة الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ويتولَّى أحد أشقائه قيادة القوات الجويَّة، ويتولى ثاني قيادة الفرقة الأولى المدرعة، ويقود ابن شقيقه قوات الأمن المركزي، فضلا عن عشرات الأقارب وأبناء عشيرته "سنحان"، الذين يتولون مناصب عسكريَّة وإدارية رفيعة، وبذلك لم تعد القبيلة فقط متحالفة مع الدولة، بل أيضًا معيارًا للترقي داخل النظام. ورغم أن صالح قاد اليمن في السنوات العشر الأخيرة لتصبح "دولة فاشلة" بامتياز، فهناك تمرد طائفي في الشمال "الحوثيين"، وآخر انفصالي في الجنوب "الحراك الجنوبي"، وخلايا لتنظيم القاعدة تنمو وتتمدد، ومعدلات فقر وبطالة وفساد مرتفعة للغاية، إلا أنه كان يعتقد أنه بمنأى عن أي تهديد جدي لعرشه، فالجيش بقبضته والمعارضة السياسية ضعيفة ومتشرذمة، والدولة بمؤسساتها شبه غائبة، أما الخارج، العربي والدولي، فهو لا يملك بديلا عنه، بل إنه مضطرّ لمساعدته اقتصاديًّا وعسكريًّا، حتى يقاتل القاعدة والحوثيين "حلفاء إيران" حسبما يروِّج صالح، وبالتالي فإن الرجل لم يجد حرجًا في تجهيز ابنه كي يورثَه الحكم. انطلاق الشرارة لكن كل هذه الترتيبات تبعثرت في لحظات مع انطلاق شرارة الثورة في تونس ومصر، حيث خرج شباب يمني غير مسيَّس للشارع يرفع ذات الشعار الشهير: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو ما تعامل النظام معه -في البداية- باستخفاف، ودفع بعض أعوانه للتحرُّش بالمتظاهرين والاعتداء عليهم، على غرار ما فعل "بلطجية مبارك"، لكن ذلك جاء بأثرٍ عكسي، إذ اتسعت التظاهرات وانضمَّت إليها فئات عدة، وتحوَّلت إلى اعتصام دائم رئيسي في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، واعتصامات أخرى في عدة مدن، أشهرها عدن وتعز والحديدة وإب، كما كان لافتًا أن أصحاب اللافتات الانفصالية في الجنوب والشعارات الطائفية في الشمال خفضوا من سقف مطالبهم، وقرَّروا الانضمام إلى حركة الشباب، ومعهم أحزاب المعارضة الرسميَّة "اللقاء المشترك"، بحيث أن الجميع بات منضويًا تحت العلم اليمني، رافعًا شعار موحَّد هو: "إسقاط النظام". وهكذا يبدو المشهد للمراقب البعيد كما لو أن حلّ مشاكل اليمن وإخماد معاركه بات رهنا برحيل "صالح ونظامه"، خاصة أن زعماء قبائل كبرى مثل حاشد وبكيل، وعلماء دين بارزين، أعلنوا تأييدهم لمطالب المعتصمين، لكن الحقيقة هي أن المشهد أكثر تعقيدًا من ذلك، فرغم أنه لا خلاف على "فشل وفساد نظام صالح"، إلا أنه ما زال يملك بعض التحالفات القبلية والشعبية الداعمة له، كما أن صالح ما زال –حتى الآن- يتمتع بتأييد الجيش، الذي يتوقع أن يكون أدائه -إذا ما وضع على المحكّ- وفقًا للسيناريو الليبي، وليس المصري أو التونسي. رجل مناورات كذلك فإن صالح -رغم فشله- لم يكن "رجل قصر" مثل مبارك وبن علي، فهو يجيد مخاطبة الشارع واللعب بمشاعره، ولذا فإنه منذ انطلاق الاحتجاجات حاول المناورة وطرح أكثر من مبادرة، ففي البداية أعلن صراحة أنه "لا توريث ولا تمديد"، ثم دعا المعارضة إلى "حوار وطني"، وعندما لم تلق مبادرته قبولًا، انتقل ليعرض تشكيل حكومة "وحدة وطنيَّة"، ثم عندما شعر صالح بأنه "وضع في الزاوية" بعدما دعته مبادرة "علماء اليمن" للتخلي عن الحكم بنهاية العام الحالي، عاد ليعرض وضع دستور جديد والتنازل عن صلاحياته لحكومة برلمانية منتخبة بنهاية 2011، مؤكدًا أن تلك المبادرة موجَّهة للشارع وليس للمعارضة، التي قال إنها سترفضها، وهو ما حدث بالفعل. وإضافة لذلك يراهن صالح على تشرذم المعارضة واختلاف أهدافها، فمثلا إذا ما حصلت الأحزاب السياسية على تنازلات تمكنها من المشاركة بالحكم، فمن الممكن أن تسحب دعمها لحركة الشباب، وهكذا يمكن لصالح تقديم تنازلات لهذا الفريق أو ذلك لشقّ صفّ المعتصمين في ساحة التغيير، كذلك يراهن صالح على غياب تصور مشترك أو فكرة واضحة حول البديل الذي سوف يلي إسقاط النظام، ويركز مؤيِّدؤه على هذه النقطة، محاولين إيصال رسالة للشارع مفادها أن المعتصمين يهدفون إلى "الفوضى"، وهي رسالة ربما تجد صدًى لدى من يخشون تكرار السيناريو الدائر حاليًا في ليبيا، خاصة أن هناك تشابها كبيرًا بين الدولتين. وفي مقابل ذلك هناك منطق أخر يرى أن المعتصمين يسيرون بقوة نحو هدفهم، وأن قاعدة التأييد تتزايد يومًا بعد آخر، والدليل على ذلك أن النظام ما زال يقدم التنازل تلو الآخر، أما عن التحذير من الفوضى، فليس هناك فوضى أخطر من الموجودة حاليًا، ورحيل النظام كفيل بمداواة كثير من جروح وخلافات اليمنيين.. وهكذا يبدو الأمر سجالا، ولا يمكن التكهُّن بما سينتهي إليه، لكن المؤكد هو أن اليمن لن يعود مجددًا إلى ما قبل 3 فبراير الماضي، فإما يتقدم إلى الأمام ويستعيد عافيته، أو أن يغرق في الفوضى والاقتتال الداخلي