الرئيس المشاط يعزي في وفاة اللواء محمد عشيش    حكام العرب وأقنعة السلطة    جمعيات المتقاعدين والمبعدين الجنوبيين تعود إلى الواجهة معلنة عن اعتصام في عدن    مي عز الدين تعلن عقد قرانها وتفاجئ جمهورها    الملحق الافريقي المؤهل لمونديال 2026: نيجيريا تتخطى الغابون بعد التمديد وتصعد للنهائي    مبابي يقود فرنسا للتأهل لمونديال 2026 عقب تخطي اوكرانيا برباعية    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    هالاند يقود النرويج لاكتساح إستونيا ويقربها من التأهل لمونديال 2026    الرئيس عون رعى المؤتمر الوطني "نحو استراتيجية وطنية للرياضة في لبنان"    إسرائيل تسلمت رفات أحد الاسرى المتبقين في غزة    إسرائيل تسلمت رفات أحد الاسرى المتبقين في غزة    مصادر: العليمي يوجه الشؤون القانونية باعتماد قرارات أصدرها الزُبيدي    تسجيل أربعة أحداث زلزالية في المياه الإقليمية اليمنية    قراءة تحليلية لنص "فشل ولكن ليس للابد" ل"أحمد سيف حاشد"    قبائل بني نوف في الجوف تُعلن النفير العام والجهوزية لمواجهة الأعداء    الرياض.. توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز الطاقة في اليمن بقدرة 300 ميجاوات بدعم سعودي    جرحى الجيش الوطني يواجهون الإهمال ويطالبون بالوفاء    عدن.. البنك المركزي يغلق منشأة صرافة    تعادل الامارات مع العراق في ذهاب ملحق المونديال    صنعاء.. البنك المركزي يوجه المؤسسات المالية بشأن بطائق الهوية    شرطة العاصمة: نسبة الضبط تجاوزت 91% .. منها 185 جريمة سرقة    أغلبها استقرت بمأرب.. الهجرة الدولية تسجل نزوح 90 أسرة يمنية خلال الأسبوع الماضي    طائرة الاتفاق بالحوطة تتخطى تاربة في ختام الجولة الثانية للبطولة التنشيطية لكرة الطائرة بوادي حضرموت    جوم الإرهاب في زمن البث المباشر    الغرابي.. شيخ قبلي متهم بالتمرد وارتباطات بشبكات تهريب في حضرموت والمهرة    "إيني" تحصل على حق استغلال خليج السويس ودلتا النيل حتى 2040    وزير الصناعية يؤكد على أهمية تمكين المرأة اقتصاديا وتوسيع مشاركتها في القطاعات التجارية    غموض يلف حادثة انتحار مرافِق المخلافي داخل سجنه في تعز    اتحاد كرة القدم يحدد موعد الدوري اليمني للدرجة الأولى والثانية ويقر بطولتي الشباب والناشئين    استهداف العلماء والمساجد.. كيف تسعى مليشيا الحوثي لإعادة هندسة المجتمع طائفيًا؟    صنعاء: تحذيرات من 3 ليالي صقيع    تدشين حملة رش لمكافحة الآفات الزراعية لمحصول القطن في الدريهمي    القصبي.. بين «حلم الحياة» و«طال عمره» 40 عاما على خشبة المسرح    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    شبوة:فعالية تأبينية مهيبة للإعلامي والإذاعي وكروان التعليق الرياضي فائز محروق    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    الذهب يهبط من أعلى مستوياته في 3 أسابيع    مناقشة آليات توفير مادة الغاز المنزلي لمحافظة البيضاء    وزير الصحة: اليمن يواجه أزمات مركبة ومتداخلة والكوارث المناخية تهدد الصحة العامة فيه    واشنطن تكشف عن التنازلات التي قدمها الشرع في البيت الأبيض    قضية الجنوب: هل آن الأوان للعودة إلى الشارع!    حل الدولتين في فلسطين والجنوب الغربي    لماذا قتلوا فيصل وسجنوا الرئيس قحطان؟    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    جروندبرغ يقدم احاطة جديدة لمجلس الأمن حول اليمن 5 عصرا    الإعلان عن القائمة النهائية لمنتخب الناشئين استعدادا للتصفيات الآسيوية    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية في الجنوب

لا يكتمل الحديث عن "ثورة 14 أكتوبر" إلا بثلاثين نوفمبر 1967 يوم الاستقلال ، الحدث الذي شكل حلقة توسط بين مرحلتين للثورة :
1/ النضال من أجل الاستقلال الوطني ومقاومة المشاريع الاستعمارية .
2/ العمل من أجل بناء الدولة الوطنية بتوحيد أجزاء الجنوب ، وتحقيق الامن والإستقرار والتطور الاقتصادي والعدالة الإجتماعية .وبناء الانسان صحياً ومعرفياً وعلمياً وسياسياً ، التمسك بالميراث النضالي للحركة الوطنية اليمنية ، دعم نضال الشعوب العربية وغيرها من أجل الحرية والعدل والمساواة .
- عدن "سفر التكوين" ومهد بناء الدولة :
بعد أيام سيحل 30 نوفمبر ، حاملاً معه أسئلة كثيرة من التاريخ ، وعن الحاضر ، و المستقبل . سيبقى بناء الدولة الوطنية على رأس الاهتمامات التي لا يمكن للمؤرخ أن يتجاهلها فيما يتعلق بما أنجزه نوفمبر ، وما خسره في نفس الوقت .
وستحضى عدن بأكثر الأسئلة ، وأشدها عاطفة وإثارة ، باعتبارها مهد الدولة الوطنية ، والمكان الجامع الذي تشكلت فيه أحلام المناضلين الأوائل ، وباعتبارها "سفر التكوين" الذي تبلور في منتدياتها ومعاهدها ونواديها ، وفي المجرى العام لكفاح عمالها وشغيلتها ومثقفيها وأبنائها الكادحين ، وكل القادمين إليها من مختلف أنحاء اليمن ، جنوبه وشماله ، وبلاد الكومنولث وغيرها .
في عدن حط هؤلاء رحالهم ، ونصبوا خيامهم في توافق إنساني هزم كل المحاولات التي ظلت تروج للانقسام العرقي ، والتمييز المكرس للاستبعاد الإجتماعي القادم في قوالب مهربة من وراء أعالي البحار في صور مختلغة من التجارب العنصرية والطائفية وغيرها من تفريعات الانتقال من الاستعمار المباشر القديم إلى الاستعمار غير المباشر الجديد .
وستمتد الأسئلة لتشمل أبين ولحج وشبوة والضالع وحضرموت والمهرة وسقطرى ، باعتبارها مكونات الدولة الوطنية التي حملت في جوفها مقومات النجاحات وعوامل الانتكاسات ، وكانت بتضحياتها وثقافتها وفنها واقتصادها ومجتمعاتها وتراكيبها الاجتماعية وميراثها وعلاقات ماقبل الدولة تحمل نقيضين : الحالة الثورية المجسدة لروح الدولة الوطنية وبواعث نشوئها وقواها الجديدة وأهدافها وأحلامها ، والحالة اللاثورية المجسدة للثقافة الانقسامية العالقة في موروث سياسي واجتماعي لم يكن للدولة الوطنية الوليدة أن تتجاوزه بالرغبة ، أو بالإرادوية ، وإنما بتغيير قوى وعلاقات الانتاج ، وخلق مصالح مادية وروحية لجميع السكان من منطلق المواطنة التي أخذت تتشكل بأسس قانونية ودستورية .
- تناقضات ذات منشأ موضوعي :
سيسجل التاريخ أن هذه الدولة حملت في جوفها تناقضات ذات منشأ موضوعي تاريخي ، وهي تناقضات طبيعية ، أخذت تستولد منظومة من التحديات ، التي كان أهمها على الإطلاق "الإندماج الاجتماعي" باعتباره انعكاساً للتطور كعملية موضوعية لا تتم إلا بالتطور الإقتصادي والإجتماعي ، وخلق مصالح مشتركة تدار بنظام المواطنة الذي يحمي الجميع .
لقد كان من الطبيعي أن يتعايش القديم والجديد في إطار بنى الدولة الجديدة ومؤسساتها ، وهي في تلك المرحلة المبكرة من التشكل ، على أن هذا التعايش لا يعني الاستمرارية ، فالنقيضين ، بطبيعتهما ، يحمل كل منهما عوامل نفي الآخر . غير أن هذه العملية تغدو معقدة فيما لو تركت دون إسناد سياسي واع لحالة الجدل التي ترافق عمل القوانين الموضوعية والمتمثلة في العمل بمثابرة على تحويل وتفكيك القديم وإحلال الجديد بدلاً عنه . ولا بد من الاعتراف بأن هذا القديم لم يكن ممكناً تحويله وتفكيكه ، ومن ثم تجديد المجتمع ، إلا بتطوير علاقات وقوى الإنتاج من إقتصاد ، ونظم سياسية ، وعلوم ، وفنون ، وبنى تحتية وخدمات اجتماعية شاملة ، وقضاء ، وقانون ، والأخذ بيد المرأة لبناء مكانتها في المجتمع كأحد أعمدته الاساسية ، وانصاف ودعم القوى الاجتماعية المهمشة ، وتصفية الامية الأبجدية في المجتمع ؛ أي بناء هياكل التطور العام . والتطور يعني فيما يعنيه الانتقال التدريجي المنظم من القديم إلى الجديد .
- التدخل بأدوات غير إقتصادية:
في تلك الظرف ، كان من الطبيعي أن تكون مقاومة القديم قوية لأن قوى الانتاج التي تم الاستعانة بها لازاحته لم تكن بالقوة الكافية التي تسمح بتحقيق ذلك بدون مشاكل وصعوبات حقيقية . فالوضع الاقتصادي لم يكن مؤهلاً لتسريع هذه العملية بأدوات التطور المادية ، ولذلك فقد كان التدخل بوسائل غير إقتصادية محاولة لإنضاج التحول على هذا الطريق ، إلا أن التدخل بوسائل غير إقتصادية قد يكون مفيداً إلى مستوى معين ، ولكنه يصبح بعد ذلك مضراً ، بل وعلى درجة عالية من الخطورة .
كان التدخل بأدوات إدارية وسياسية "ثورية" لتعويض ضعف البنى الاقتصادية يتجاوز الحاجة في بعض الأحيان ، وكان لا يلبث أن يرتد في صورة توترات إجتماعية ، تتكثف بدورها في خلافات سياسية ، كما حدث في الانتفاضات الفلاحية التي كان يراد منها تغيير علاقات الانتاج في الريف بأدوات غير إقتصادية . ولم يستقم هذا الأمر على نحو متوازن بعد ذلك إلا بعد أن تحقق في المجال الزراعي قدر كبير من الميكنة الزراعية ، وإعادة تنظيم هياكل الانتاج الزراعي ، وإصلاح نظام الحيازة والملكية ، والتسويق ، وتحسن نظام الري ، وإدخال نظم انتاج لتعويض تسرب اليد العاملة منه إلى القطاعات الاقتصادية الحديثة .
والحال أنه في المفهوم العام للتطور الشامل لا غنى عن الإقتصاد ، وتطوير وسائل الإنتاج ومن ثم تغيير العلاقات الاجتماعية نحو التقدم .
- البنى الحديثة للدولة ، ولادة الطبقة المتوسطة :
مع خطوات بناء الدولة يمكن القول إن تناقضات القديم والجديد تعايشت وتصادمت .. ومن هذا التصادم والتعايش بني نموذج لنظام سياسي واجتماعي مقاوم للهزات العنيفة التي تكررت على نحو موضوعي للأسباب المتعلقة بمقاومة البنى القديمة وتباطؤ الاندماج الاجتماعي . وكان أن أخذت الدولة تستقر داخل بنى حديثة ومعاصرة ، وأخذ الناتج المحلي ، والدخل الوطني يتكونان بمعدلات أسرع في القطاعات الحديثة ، حيث أخذت الطبقة المتوسطة في هذه القطاعات تنمو وتأخذ مكانتها في البنية الاجتماعية ، غير أن هذه الطبقة الهامة لم تجد فرصتها الكاملة لتكون جزءاً من العملية السياسية ، إلا من التحق بعضوية المؤسسة الحزبية الحاكمة . وكان هذا الوضع مصدراً جديداً لمشكلة الاندماج الاجتماعي التي أخذت تجر عملية بناء الدولة إلى مواجهات ليس مع الموروث من التحديات القديمة وإنما مع ما خلقه التطور من مخرجات في صورة تحديات جديدة .
وهو ما شهده البلد منذ أن بدأ بناء الدولة وإقامة نظام الحكم بنفس " الحجارة" الموروثة وبأدوات حديثة وبمنهج وطني أتاح تمييز الصلب من الهش وذلك بمقدار ما أتاحت تفاعلات النهوض الوطني من فرص لمزيد من الاختيارات الناجحة .
لم تكن عملية بناء الدولة سهلة ، فقد تداخل بناؤها مع إقامة نظام للحكم يستوعب الطبيعة الخاصة للجنوب المجزأ والغارق في بحر من التخلف ، فيما عدا عدن وبعض المناطق الحضرية الأخرى . غير أنه بمجرد أن دارت عجلة التغيير حتى نشأت مشكلة العلاقة بين الدولة والمؤسسة السياسية الحزبية ، فالدولة اتسعت قاعدتها الاجتماعية مع نمو الطبقة المتوسطة ، بينما أخذت القاعدة الاجتماعية للمؤسسة الحزبية الحاكمة تتشكل بشروط حادة أبقت قطاعات واسعة من هذه القاعدة الاجتماعية خارج المؤسسة السياسية ، على الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني كانت قد استوعبت جزءاً من هذه القاعدة الاجتماعية . لكن هذا الاستيعاب لم يشكل تعويضاً كاملاً لحاجة الكثيرين إلى الانخراط في العمل السياسي ، وظلت هذه واحدة من الأسباب التي أخذت تضغط باتجاه التوترات السياسية والاجتماعية التي كانت تشتد على المؤسسة السياسية الحزبية فتعمل على احتوائها بتوسيع قاعدة المشاركة في أبنية الدولة ومؤسساتها ، وتوفير الخدمات الاجتماعية ، وفرص العمل ، والتعليم بمستويات المختلفة ومجانية التطبيب ، وتحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية عبر نظام عادل لإعادة توزع الدخل .
لكن التغيرات الكبيرة التي أخذت تصيب المجتمع الريفي والتقليدي كانت تدفع بآلاف الباحثين ، ممن تأهلوا علمياً ومهنياً ، عن فرص للعمل في القطاع المدني وهو ما رفد الطبقة المتوسطة بقوى إضافية مع ما ولدته من ضغوط على الحياة السياسية .
كان تصنيف الطبقة الوسطى بالبورجوازية الصغيرة قد أفضى إلى التمسك بتعريفات تضمنت موقفاً أيديولوجياً أقرب الى الخصومة الطبقية منه إلى إدراك ما تحمله هذه الطبقة من نزعة متقلبة تجعلها في مركز اهتمام الدولة ، ومن ثم العمل على استيعابها أو السماح لها بخلق تعبيراتها السياسية . تجاهلت القيادة السياسية أن هذه الطبقة لم تكن سوى ما أسفر عنه بناء الدولة من مخرجات ، ولم تكن موروثة حتى ينظر إليها بأنها غريبة المنشأ وبخصائص تتناقض مع الجوهر الاجتماعي للنظام السياسي ، ولذلك كان من الطبيعي أن يتشكل قدر من التباعد الذي كانت له آثار سلبية على القاعدة الاجتماعية للنظام ، باعتبار أن هذه الطبقة هي جزء أصيل من هذه القاعدة ، لكنها لا ترتبط بها إلا بروابط يملؤها الشك من الطرفين .
- الجميع أبناء بيئتهم :
في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات ، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف ، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة . غير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك ، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة ، وكان بمثابة المسبار الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث ، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي ، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم .
كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي ، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية . وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية ( الحزب) لا تتجاوز آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة ، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع . وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي .
وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً ، إلا النوع الأخير من العنف ، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع ، تتسع وتعجز المعالجات السطحية من انهائها .
لا يمكن النظر الى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً ، وبصورة طبيعية ، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث . كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة .
- مقاومة الموروث لبناء الدولة :
كان بناء الدولة يسير جنباً إلى جنب مع جهود التغلب على هذا الموروث . والذي يعتقد أن هذه العملية كان ممكن أن تتم بدون مقاومة عنيدة من قبل هذا الميراث إنما يتجاهل حقيقة أن هذا الميراث كان قد تجذر في بنى إجتماعية وسياسية مغلقة على ثقافة ، وتاريخ سياسي ، ونظم حكم وفرت لها مقومات العزلة أكثر من فرص الانفتاح . وبهذا الصدد لا ننسى الدور الرائد الذي لعبه المناضلون الأوائل ممن كسروا حاجز العزلة وبناء جسور التواصل وذلك في بواكير العمل السياسي الذي كانت عدن الحاضنة الأولى له . إن عملية البناء تلك سارت بخطى جسدت الفكر السياسي الذي حمل منذ منذ ما قبل الاستقلال قضية بناء الدولة الوطنية بكل ما تعنيه من تحديات .
لقد أوضح ميثاق الجبهة القومية هذه المسألة بوضوح . وكان برنامجها الذي شكل رافعة سياسية للنضال الوطني قد تفاعل على نحو إيجابي مع نضال نقابات العمال التي كان لها دوراً مبكراً في تكوين الوعي السياسي الوطني ، والذي شكل بيئة مناسبة لكفاح مشترك لمناضلي الجبهة القومية ومناضلي جبهة التحرير ، وقبلهما الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب وغيرها من المكونات السياسية التي ، وإن اختلفت مساراتها ، إلا أنها شكلت الأرضية التي تحرك فيها الجنوب من حالة الجمود السياسي ليفرغ شحناته الوطنية في مسار انتهى ببناء دولته من العام 1967-1990 .
- التطور مفهوم إشكالي :
أمام نجاح بناء الدولة كان من الممكن أن تبقى تلك الأحداث على هامش عملية البناء تلك ، باعتبارها تحديات موضوعية ، غير أن للحياة منطقها الذي كان يجب أخذه بعين الاعتبار ، وهو أنه مع كل عملية مواجهة كانت القوة الحاملة للتطور تخسر جزءاً من دينامياتها ، لأن الذي كان يخرج من المعادلة هو جزء من "المجموع الحي" لمعادلة التطور ، وإن بدا أنه يحمل رأياً مغايراً ، إلا أن "التطور" في حقيقته كان مفهوماً إشكالياً في بلد لم تتشكل عناصر بنائه على قاعدة مستقرة من المفاهيم .
على هذا النحو سار بناء الدولة الوطنية في الجنوب وبأدوات ومفاهيم ومعايير كانت تتطور كلما استطاع "الجديد" أن يحتل المزيد من المساحة في رقعة الصراع ، حتى أخذت المسارات السياسية والاجتماعية تقترن بتطور معقول لقوى الانتاج ، وأخذت القطاعات التقليدية ، التي تضم الغالبية العظمى من السكان ، تتحول عبر خلق أنماط حديثة من عناصر الانتاج ، والادارة ، وتطبيق القانون ، والإشراف السياسي ، والدعم الذي قدمته الفنون ، وانتشار التعليم بشقيه الأكاديمي والمهني ، وكان للأخير دوراً كبيراً في ربط التطور الاقتصادي بقاعدة واسعة من الفنيين المهرة ممن غيروا تراكيب وبنى المجتمع وتأهيلها ، من ثم ، لتنمية شاملة .
كان الوضع الذي استقر عنده بناء الدولة يعكس حقيقة من حقائق نجاح هذه العملية . فالتراكيب التقليدية للمجتمع كانت قد تفككت وتراجعت ، وأصبحت نسبة كبيرة من سكانها جزءاً من البنى الحديثة للدولة ، وكانت التجارة الداخلية ، وانشطة النقل ، والاتصالات ، والتسويق ، والبناء والانشاءات والمقاولات ، والصناعات الصغيرة والحرفية ، والسياحة ، والفن والموسيقى والتمثيل والرسم ،والرياضة قد فتحت أبواباً ومجالات لتعاون مشترك بين القطاع العام والتعاوني والخاص ، وقدمت فرصاً هامة للاندماج الإجتماعي الذي أخذ يتشكل بأدوات إقتصادية أكثر منها سياسية . كما أن النظام اللامركزي في إدارة الدولة كان قد حقق نجاحات كبيرة في تفويض صلاحيات المركز لمجالس الشعب المحلية ، وهو الأمر الذي أخذ يعالج جوهر مشكلة الاندماج الاجتماعي التي ظلت دالة في الميراث السياسي والاجتماعي والثقافي للمكونات والكيانات السياسية التي تشكلت منها الدولة .
- الدولة عند قيام الوحدة:
وعند قيام الوحدة كانت الدولة في الجنوب قد غطت المساحة الشاسعة من المهرة حتى باب المندب بنظام للحكم جمع بين المركزية واللامركزية الادارية والمالية على نحو أخذت فيه الحاجة لتعزيز اللامركزية تضغط بشدة و تنتج ديناميات اتجهت بالمسار كله نحو التعددية باعتبارها المعادل الموضوعي للتنوع السياسي والاجتماعي الذي راح يعكس التغيرات الهامة والكبيرة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والحاجة الى التعددية السياسية المرافقة لذلك .
وثيقة الاصلاحات السياسية والادارية الهامة لخصت الحاجة إلى صياغة مشروع انتقال الى التعددية السياسية ، خاصة وأن الدولة قد اكتمل بناؤها ، ولا يمكن حماية هذا البناء وتطويره إلا بالاعتراف بالتنوع والتعدد الديمقراطي .
أخذت النقاشات في الأطر السياسية والحزبية والشعبية تتفاعل مع الحاجة الى إحداث تغيرات جوهرية في البناء السياسي لنظام الحكم يستوعب التطورات الاجتماعية الكبيرة التي رافقت بناء الدولة ، وعبرت عن توسع القاعدة الاجتماعية وتنوعها وحاجتها الى إصلاحات سياسية معادلة .
في خضم هذه النقاشات برزت قضية "الوحدة"
وتصدرت المشهد كله ، واشترط الجنوب ربط الوحدة بالديمقراطية ، وكان ما كان من أمر الوحدة والديمقراطية معاً ، فقد دفنتا بالحرب .. ومنها تناسلت المأساة .
وكل عام وأنتم بخير .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.