الأنبياء كحقيقة قرآنية لم يحدد لهم عدد معين بنص قطعي الثبوت؛ بل هم كما قال الله تعالى عنهم:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر/78]،وتفسير الآية كما يقول العلامة الطبري: أن مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى أُمَمِهِمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} نَبَأَهُمْ. ولذلك نجد في ثنايا نصوص السنة والتاريخ أسماء أنبياء لم تشتهر أخبارهم بين العامة .. كنبي الله خالد بن سنان العبسي اليمني عليه السلام مثلا الذي أورد الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب" الإصابة في معرفة الصحابة"(2/310) روايات يعضد بعضها بعضا تؤكد نبوته فقال: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان خالد بن سنان بعث مبشراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما حضرته الوفاة قال: إذا أنا مت فادفنوني في حقف من هذه الأحقاف،ووردت ابنة له عجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتلقاها بخير وأكرمها وقال لها: " مرحباً بابنة نبي ضيعه قومه " فأسلمت ،وقال عن إسناد هذه الرواية ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. ثم قال في "فتح الباري"(6/489) مبينا ما قد يفهم من التعارض بين ما تقدم وحديث: (أنا أولى الناس بعيسى لأنه لم يكن بيني وبينه نبي) الذي في صحيح البخاري وغيره،فقال:فيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين وكانا بعد عيسى، والجواب: أنه قد يكون المراد أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة وإنما بعث بعده من بعث بتقرير شريعة عيسى. وذكر ابن الأثير في "اللباب في تهذيب الأنساب"(1/372): أن من أنبياء اليمن نبي الله شعيب بن ذي مهدم وهو غير نبي الله شعيب المرسل إلى مدين،ويوجد باليمن جبل شاهق يعرف إلى زماننا هذا بجبل النبي شعيب، وفي هذا دعم لما نقله العلامة ابن الأثير. أقول: وذكر ابن الأثير أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه ما نصه: (بعث الله فِي سبأ اثْنَي عشر نَبيا فكذبوهم فَأتوا مَكَّة فتعبدوا بهَا حَتَّى مَاتُوا) وفي هذا النص إشارة صريحة إلى كثرة الأنبياء باليمن ؛إلا أن الأمر يفتقر إلى بحث وتنقيب دقيق وتمحيص وتوثيق يضبط جميع الروايات المتعلقة بهذا الشأن ولعل الله يقيض لهذا الأمر من يظهره. ولن أتكلم في مقالي هذا عن تاريخ الأنبياء باليمن لأن الأمر يفتقر إلى وقت طويل وبحث أوسع ولكن سأتكلم في هذه الصفحات عن مجموعة من الأنبياء نصت المصادر على وجودهم بقطر حضرموت لينتفع بذلك الحريص على المعلومة والراغب في الاستزادة والإلمام بتاريخ أرضه ووطنه ،وإن كانت بعض المعلومات لا تزال مفتقرة إلى ما يزيدها دلالة وتأكيدا،ولعل ما نكتبه يكون مقدمة لكتابات عميقة في هذا الباب. أولاً نبي الله هود عليه السلام: هو هود النبي صلى الله عليه وسلم ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن برد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم صلوات الله على الأنبياء أجمعين. دل على وجوده بحضرموت أدلة كثيرة منها قول الله تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأحقاف : 21]، ومنازل عاد بحضرموت كما صرح بذلك أكثر أهل التفسير والتاريخ،والأحقاف كما قال مقاتل بن سليمان في تفسيره: (هي باليمن في حضرموت)، وذكر ابن هشام الحميري في كتاب (التيجان في ملوك حمير) (ص45) ما نصه :(ودفن أي النبي هود عليه السلام بالأحقاف بموضع يقال له الهنيبق ، بجوار الحفيف،فإن نهر الحفيف أخرج الله فيه الماء المعين، وغرست فيه الثمار، من يوم أخرج الله فيه آية هود) . قال الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعالبي في كتابه "عرائس المجالس في قصص الأنبياء " (ص 65):(الرواية القائلة بدفنه بحضرموت هي الأقرب للصواب) . قال العلامة الحضرمي عبدالرحمن بن عبيدا لله السقاف في "بضائع التابوت"( 1/91): (الحفيف هو النهر الذي لا يزال جاريا إلى اليوم بجوار قبر هود عليه السلام، إلا أنه نقص بفرق كبير عما هو عليه). وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان :(الأحقاف جمع حقف من الرمل والعرب تسمى الرمل المعوج حقافا وأحقافا واحقوقف الهلال والرمل إذا اعوج ،ثم قال: عن ابن عباس قال ابن إسحاق: الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت، وقال قتادة :الأحقاف رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن، وهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى، وقال الضحاك: الأحقاف جبل بالشام، وفي كتاب العين: الأحقاف جبل محيط بالدنيا من زبرجدة خضراء تلهب يوم القيامة فيحشر الناس عليه من كل أفق وهذا وصف جبل قاف، والصحيح ما رويناه عن ابن عباس وابن إسحاق وقتادة أنها رمال بأرض اليمن كانت عاد تنزلها ؛ويشهد بصحة ذلك ما رواه أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي يحيى السجستاني عن مرة بن عمر الأيلي عن الأصبغ بن نُباتة قال إنا لجلوس عند علي بن أبي طالب ذات يوم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ،إذا أقبل رجل من حضرموت لم أر قط رجلا أنكر منه فاستشرفه الناس وراعَهم منظرهُ، وأقبل مسرعاً جادا حتى وقف علينا وسلم وَجثا وكلم أدنى القوم منه مجلساَ وقال: من عميدكم؟ فأشاروا إلى علي رضي الله عنه ،وقالوا هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعالمُ الناس والمأخوذ عنه، فقام وقال: اسمع كلامي هداك الله من هادِ ... وافرج بعلمك عن ذي غلة صادِ جاب التنائفَ من واد ي سُكاك إلى ... ذات الأماحل في بطحاء أجياد تلفه الدِمنة البوغاءُ معتمدا ... إلى السداد وتعليم بإرشاد سمعتُ بالدين دين الحق جاءَ به ... محمد وهو قَرم الحاضر الباد فجئت منتقلاً من دين باغية ... ومن عبادة أوثان وأندادِ ومن ذبائح أعياد مضللة ... نسيكها غائب ذو لوثة عاد فادلل على القصد واجل الريب عن خَلدي ... بشرعة ذات إيضاح وإرشاد والمم بفضل هداك الله عن شَعثي ... وهدني إنك المشهور في النادي إن الهداية للإسلام نائبة ... عن العمى والتقى من خير أزواد وليس يفرج ريب الكفر عن خَلدٍ ... أفظْه الجهل إلاحية الواد قال فأعجب علياً رضي الله عنه والجلساء شعره، وقال له علي: لله درك من رجل ما أرصَنَ شعرك، ممن أنت؟ قًال من حضرموت، فسرّ به علي وشرح له الإسلام فأسلم على يدَيه ،ثم أتى به إلى أبيِ بكررضي الله عنه فأسمعهُ الشعر فأعجبه، ثم إن علياً رضي الله عنه سأله ذات يوم ونحن مجتمعون للحديث أعالم أنت بحضرموت؟ قال إذا جهلتها لم أعرف غيرها! قال له علي رضي الله عنه: أتعرف الأحقاف؟ قال الرجل كأنك تسأل عن قبر هود عليه السلام؟ قال علي رضي الله عنه: لله درك ما أخطأت، قال: نعم خرجت أنا في عُنفوان شبيبتي في أغيلمة من الحي ونحن نريد أن نأتي قبره لبعد صيته فينا، وكثرة من يذكره منا، فسرنا في بلاد الأحقاف أياماَ، ومعنا رجل قد عرف الموضع فانتهينا إلى كثيب أحمرَ فيه كُهوف كثيرة ،فمضى بنا الرجل إلى كهف منها فدخلناه فأمعنا فيه طويلاً فانتهينا إلى حجرين قد أطبقَ أحدهما دون الاَخر وفيه خلل يدخل منه الرجل النحيف مُتجانفاً ،فدخلتُه، فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة طويل الوجه كَث اللحية وقد يبسَ على سريره فإذا مسستَ شيئاً من بدنه أ ضَحيتَهُ صليباَ لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالعربية أنا هود النبي الذي أسفت علي عاد بكفرها وما كان لأمر الله من مرد ،فقال لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كذلك سمعته من أبي القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم)،وفي مستدرك الحاكم على الصحيحين قال: عن أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء و سدر كثير بناحية كذا وكذا ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين إنك لتنعته نعت رجل قد رآه قال : لا ولكن حدثت عنه، قال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبر هود صلى الله عليه وسلم . قال العلامة الحضرمي عبدالرحمن بن عبيدالله: (والأحقاف هي حضرموت دون نزاع،والأصل بقاء ما كان حتى يعلم خلافه، فينبغي أن يعقد عليه الإجماع). نعم ذكرتْ بعض الكتب أن قبر النبي هود عليه السلام ليس بحضرموت وإليك مناقشة هذه الأقوال