من مشكلات هذا العصر، انصراف الناس عن المطالعة والقراءة الجادة، متذرعين بأنهم لا يحبون القراءة، أو لا يجدون الوقت للمطالعة ومتابعة الإصدارات، وبعضهم يرى أن حث الناس على القراءة هي دعوة فقط لحشو الرؤوس بالمعلومات فينفرون من هذه المهمة الشاقة، ويعرضون عن قائله، ولا يدركون أنهم يفوتون على أنفسهم مهارات وثقافات جمة بإهمالهم لعملية القراءة. ومن الناس من يرى أننا في عصر التخصصات، وبالتالي فإن القراءة العامة في كل مجال خطأ فادح لا يجوز الوقوع فيه، وقد يظن أنه تعدٍ على التخصصات، ومن حاول القراءة في غير اختصاصه أصبح عرضة للزلل والفهم الخاطئ للنصوص وينبغي حسب رأيهم على كل فرد أن يتخصص بعلم واحد فقط لا يتجاوزه، ويدع ما سواه فهذه طاقته، والثقافة العامة لا يحاط بها في هذا الزمان، ومع التخصص لم يعد لها أية قيمة أو أهمية، ويكفي المرء أن يلم ببعض المعلومات الأولية الضرورية، ثم يتابع بعد ذلك ما تبثه الفضائيات ووسائل الاتصال الأخرى الكثيرة ليصبح مثقفاً بشكل جيد. ولا ندري حقيقة من الذي يلقن الناس هذا الهراء، وكيف اقتنعوا به وصدقوه وقللوا من أهمية مطالعة الكتب؟ فالفضائيات والكمبيوتر ووسائل الإعلام لا يمكن لها بحال من الأحوال أن تحل مكان الكتاب، حتى رغم كثرة المغريات لم يستطع شيء أن ينافس مكانة الكتاب العظيمة ودوره النافع، والمنح التي تقدمها القراءة الهادفة للإنسان لا يقدر عليها سواها، بما تفتق الذهن وتوقد الذكاء، وتصقل الموهبة، والثقافة العامة التي تتولد عن القراءة تنتج الحكمة وبعد النظر، والاطلاع المستمر على سائر العلوم يزيد خبرات الإنسان ويعلمه كيف يتلافى الأخطاء والأخطار ويزوده بحلول لمشكلاته، وهذا أكثر ما يحتاجه المرء ليحيا حياة سعيدة وناجحة. إن للقراءة لذة وللتعلم سحراً، وعلى الإنسان الواعي أن يقرأ في كل علم وأن يطرق الأبواب كلها ليحصل على الفائدة المرجوة من وراء القراءة، والقراءة المتنوعة ليست للرفاهية أو المفاخرة وإنما هي حاجة ضرورية، فلكل لون من ألوان المعرفة فوائد جمة، ومن أهمل جانباً منها فقد حلاوته وعوائده، فالمبدعون والموهوبون والعلماء كانت إبداعاتهم ومواهبهم نتيجة لقراءة دؤوبة ومستمرة، مع إحساسهم أنهم مهما قرؤوا فإنهم بحاجة للمزيد، سئل ذات مرة الشيخ المصري محمد الغزالي رحمه الله: ما الذي صنع منك كاتباً عظيماً ومفكراً إسلامية، فأجاب: «إنها القراءة بتمعن لدرجة الولع، وكنت وما زلت أقرأ كل ما يقع بيدي من كتب وصحف ومجلات وغيره لا أفوت منها شيئاً حتى أصبحت كما ترون»، ويقول الدكتور شاكر مصطفى رحمه الله، في معرض رده على سؤال وجه إليه حول ما وصل إليه من درجة رفيعة من الأدب «ما زلت أشعر أنني طفل يغرف من ماء البحر بصدفةٍ صغيرة»، ويقول جيفرسون، الرئيس الثالث لأمريكا «إن الذين يقرؤون هم الأحرار، لأن القراءة تطرد الجهل والخرافة، وهما ألد أعداء الحرية».. فالقراءة في شتى فنون العلم أولى لبنات الحضارة الإنسانية وبناء الأمة، فالقراءة في الأدب مثلاً تبسط اللسان وتجود البيان وتثري الذخيرة اللفظية وتعطي المرء بلاغة وفصاحة. والقراءة في كتب التاريخ تبعث في النفس التفاؤل وتعيد إليها الأمل، فالتاريخ سجل لتطور البشرية وعلى طيات صفحاته نرى خطوات التقدم، والانتكاس ومواقف النبل والارتكاس، وذلك يؤكد أن البشرية في تقدم مطرد رغم ما في الحياة من عثرات. والقراءة في السياسة والاجتماع يحددان واجبات الأفراد وحقوقهم ويرسمان الإطار الذي يحيط بالفرد ككائن اجتماعي، فنحن نعيش مع الناس ولا بد من أن نفهمهم لكي نتمكن من التعايش السليم معهم والقراءة عن الأعلام وفي سير المشاهير تيسر الاستفادة من تجارب الآخرين وتحفز الإنسان ليكون مثلهم منتجاً وفعالاً لمجتمعه، وتبين له سبل النجاح، وتكون عوناً له على تجاوز الصعاب في مجالات الحياة المتنوعة وتعوده على الصبر وتحمل المشاق. والقراءة في علم النفس تهبنا المقدرة على فهم أنفسنا فتساعدنا على إزاحة الاكتئاب والحزن عن حياتنا اليومية، وعلم النفس يعيننا على فهم أعمق للناس وتساعدنا على كسب ودهم ومحبتهم والقراءة في الجغرافيا تجعل الإنسان يتفكر في ملكوت الله ويستشعر عظمته وإبداعه، والجغرافيا تعرفنا على سكان العالم وبيئاتهم وظروفهم وأحوالهم فنفهم الدنيا من حولنا وندرك أن الاختلاف سنة في الخلق. والقراءة في الرياضيات وعلم الحساب تنمي العقل وتساعد المرء على سرعة الحساب والتقدير، والكيمياء والفيزياء تعملان على تفسير الظواهر اليومية وتعلم خصائص المواد وكيفية التعامل منها.. وبالإجمال فإن الشخص الذي يقرأ يكون قادراً على الاستيعاب والتطور وإدراك حركة العصر، وأما الذي لا يقرأ فهو كمن توقف عن النمو وسيبقى طفلاً في فكره. وفي هذا الصدد لا بد من معرفة أهمية القراءة في مرحلة الطفولة، هذه المرحلة التي يبني الإنسان عليها نفسه، فالقراءة تكسب الطفل حصيلة لغوية وتشبع فيه حب الاستطلاع ومعرفة العالم من حوله كما تساعد على نمو خياله، وتهذيب نفسه، وتغرس في سلوكه خلاصة التجارب المألوفة والخبرات الإنسانية وتنشئ لديه العقل الواعي الذي ينظر ويتأمل ويفكر، وتكسبه القيم والأخلاق السامية من صدق وأمانة وإيثار ومودة. ويجب علينا هنا معرفة الوسائل التي يمكن اعتمادها من قبل الأسرة والمدرسة والمجتمع لتنمية حب القراءة لدى الأطفال وجعلها عادة يومية، وأولى تلك الوسائل أن تكرس لدى الطفل حب القراءة «بالقدوة الحسنة» في عملية القراءة، فأجمل ما يشاهده الطفل في المنزل أبوان قارئان يحبان المطالعة الجادة، ومعلم قارئ ومثقف في المدرسة ليحذو حذوهم في القراءة ويقتدي بهم في هذا السلوك. كما يجب أن تهتم المدرسة بالقراءة لدى التلاميذ وإكساب الطفل المهارات اللازمة للمواظبة عليها، كالاهتمام بالمكتبة المدرسية وتسهيل عملية الإعارة، كما يجب على الوالدين اصطحاب أطفالهم للمكتبات العامة ومكتبات الأطفال خاصة، كما يجب على الوالدين سماع رأي الأطفال فيما يقرونه ومشاركتهم بآرائهم ومقترحاتهم، ففي هذه الحالة سيشعرون ببهجة عظيمة وسعادة غامرة وبذلك تترسخ في نفوسهم القيم الإيجابية. ومن الوسائل التي تلعب دوراً هاماً في تكريس ظاهرة القراءة عند الأطفال على نطاق واسع مساهمة وسائل الإعلام بمختلف أشكالها في تنمية ميولهم القرائية، وذلك بتقديم المقالات والبرامج التي تحقق هذا الهدف، ولا يخفى دور صحافة الأطفال التي يجب دعمها وتطويرها من حيث الكم والنوع، وذلك لتحفيز الأطفال على قراءتها والاستفادة منها.