متى ما اختلطت المفاهيم في مجتمع ما، اختلطت معها الممارسات أيضاً، وفقد المجتمع انسيابية التعايش الآمن، لأن اللفظ اللغوي اكتسب أكثر من معنى - وهنا يكمن خطر عظيم على مستقبل الشعوب.. ! بإمكاننا اليوم رصد ظواهر كثيرة في مجتمعنا تقاطعت فيها المفاهيم فتحولت إلى أعباء معيقة للانسيابية الطبيعية التي ينبغي أن تنتهجها حياتنا اليومية.. فالوزير أو أي مسؤول حكومي كبير يشارك في افتتاح فعالية لمؤسسة أو منظمة من باب إضفاء بعد تشريفي يكسب الفعالية أهمية أكبر، لكن العديد من الوزراء والمسؤولين ماعادوا يفهمون حضورهم «تشريف»، بل أصبحوا يمكثون في تلك الفعاليات من أولها إلى آخرها، تاركين خلفهم مكاتبهم خاوية، وعشرات المراجعين يحتشدون أمامها.. وهنا اختلط الواجب الأساس بالمسئولية التشريفية فألحق الضرر بمصالح عامة من صميم الواجب الأول.. وقد يتكرر الحال أياماً خاصة وأن البلد يشهد حراكاً غير مسبوق ! حلقات النقاش، والندوات هي الأخرى اتخذت مفاهيم مغايرة لدلالاتها.. فالأصل فيها هو تبادل وجهات النظر حول قضية محددة، ومن ثم الخروج بتصورات معينة تخدم القضية المطروحة.. لكن معظم مؤسساتنا اليوم تجعل الأصل فيها وجاهة المكان.. فأصبحت الكثير من الأجهزة الحكومية تتكالب على فنادق الدرجة الأولى لتقيم حلقات نقاشها فيها.. وإذا بها تهدر مئات الآلاف من الريالات - وأحياناً الملايين سنوياً من المال العام على المظاهر التي لاتقدم ولاتؤخر من جوهر الأمر المطلوب شيئاً..بل ان البعض حولها إلى مظلات للفساد المالي. ومن الطرائف في هذا أن إحدى المنظمات عقدت مؤخراً ندوة استغرقت يومين، وحشدت إليها جماهير غفيرة، وفرقت خلالها أوراق العمل بحافظات انيقة، ومع الدفاتر وأقلام الدعاية من النوع النفيس، وأجزلت العطايا للمشاركين بمبالغ طائلة.. بما فيهم نحو سبعين إعلامياً - وحين انتهت لم تنشر وسائل الإعلام خبراً واحداً عن توصياتها، أو الخلاصات التي خرجت بها - كما لو أن شيئاً لم يكن - خاصة وان هدفها كان تعبوياً. وبالعودة إلى اختلاط المفاهيم هو واقع ماتعيشه الأحزاب السياسية من تحريف لمفاهيم الممارسة الديمقراطية والحريات، فلم تعد تعرف لماذا هي موجودة.. أو ماذا تريد فتخلت عن بناء نفسها، وتطوير تنظيماتها، ومناهج عملها، وتفرغت إلى البحث عن أي خطاب أو ممارسة من شأنها إثارة غضب الحزب الخصم «المنافس».. وبدلاً من ان تتحول إلى أدوات تغييرية وطنية لمواضع الخلل وجدناها تتحول إلى ظواهر صوتية بلا أفعال.. ذلك لأنها فهمت وجودها ودورها على نحو مغلوط جعل منها - في كثير من الأحيان - أعباءً على الجماهير نفسها لأنها تقودها في الطريق الخاطىء وتنأى بها عن غاياتها الوطنية السامية.. جوانب كثيرة في حياتنا نفهمها بشكل خاطىء بما في ذلك العمل الإعلامي الذي تفرغ للتنظير وافتعال المعارك الجانبية، وتقوقع بين النخب السياسية مغادراً بذلك ميدانه الرئيس الذي هو المجتمع وليس المنابر الحزبية .. ولهذا غرقت الاكشاك بالخطابات السياسية التي تحملها الصحف دون أن يكون بينها خطاب لملايين المواطنين.. بل والبعض يجهد نفسه الاسبوع كاملاً ليس بحثاً عن خبر بقدر ماهو بحث عن إعلان تجاري يعود عليه بربح مالي. و حتى مهمتنا الإنسانية في تصويب الممارسات الخاطئة فقدت قيمتها، فلم يعد شرطي المرور يطلب من السائق الوقوف خلف خط المشاة عند الجولات ليؤمن مسلكاً آمنا للسابلة.. ولم يعد أحدنا ينتقد سائق الباص حين يقف وسط الشارع لينزل أحدهم.. ولانكترث لوجود الأطفال وسط الطرقات العامة يلعبون الكرة.. ولا لمحل تجاري يرمي نفاياته على الأرصفة ويشوه جمالية البيئة.. ولا نعترض على المدارس التي تلزم أطفالنا يومياً بتنظيف الفصول والساحات على حساب نظافتهم ودروسهم. أشياء كثيرة لانفهم أدوارنا إزاءها على النحو الصحيح لكننا نجيد فضحها في المقايل والصحف.. والسؤال الذي يجب طرحه على أنفسنا هو : إن لم نكن نحن من ينشر الوعي ويصحح فهل سننتظر معجزة !! أليس التغيير يبدأ بالنفس والأهل قبل أن نطلبه من الآخرين!؟